القاهرة| محسن إبراهيم «سأحاول مرة أخرى». هذا ما قاله محمد، الشاب الثلاثيني من درعا، الذي درس الهندسة المعمارية في جامعة دمشق. كان واحداً من الثائرين، وخسر عمله وبيته الصغير الذي أنجز إكساءه «فور وصول المدفعية إلى درعا». هدمت منه غرفتين، وخرج هو من سوريا نهاية عام 2011 متجهاً إلى الأردن، ومن ثم توجه إلى مصر التي كانت تستقبل اللاجئين السوريين بصدر رحب «لم يشهده في الأردن».
آنذاك، كانت مصر بالنسبة إلى السوريين بديلاً معقولاً من سوريا، على رغم جميع الاختلافات. ولكن محمد، كما معظم السوريين، شهد التحولات في مصر، وكالمصريين ساءت أحواله. بات يفكر بالخروج من «أم الدنيا» بأي طريقة. لبنان وتركيا بلدان يمكن للسوري دخولهما «بلا تأشيرة». لكنه لن يتكمن من المكوث أكثر من ثلاثة أشهر فيهما... مدخراته لم تكن كثيرة. تقدم إلى عدد من السفارات الأوروبية في مصر عله يحصل على «لجوء» فيها، لكنه أيقن أخيراً أن «الوساطة» مطلوبة، سواء كانت أوروبية أو من خلال شخصية معارضة لها علاقات مع الاتحاد الأوروبي. عرف أنه سيضيّع وقته وماله في وعود وانتظار بلا معنى.
اقتيد المهاجرون إلى منطقة
عسكرية تابعة لحرس الحدود في منطقة «أبي قير»، حيث تم احتجازهم في مكان يشبه الإسطبل


سجلت أقسام الشرطة المصرية
احتجاز مئات من السوريين أثناء محاولتهم السفر بطريقة غير شرعية خلال عام 2013

قرر أخيراً وفي نهاية صيف 2013 أن «يجرّب حظه» في الهجرة غير الشرعية عبر البحر. فشل في المرة الأولى. لكن الموسم عاد، وسيحاول مرة أخرى.
ولكي يحاول عليه اتباع بعض الإرشادات. عليه أن يذهب إلى مدينة «السادس من أكتوبر». إنها مدينة أسماها البعض «دمشق الصغيرة»، لكثرة السوريين فيها والمطاعم والمحال التي افتتحها السوريون منذ أكثر من عامين. للمناسبة، كثير من أصحاب هذه المؤسسات الطارئة علّقوا ــ أخيراً ــ على واجهاتها أوراق كتب عليها «مطعم مجهز بالكامل للبيع بداعي السفر»، أو «محل ألبسة للتسليم خلال شهر بداعي السفر». أصحاب هذه المحلات لم يفكروا منذ وصولهم إلى مصر بالسفر إلى مكان آخر غير سوريا، لكن معظمهم بدأ بحزم أمتعته. في زيارة إلى أحد مقاهي «ستة أوكتوبر» يمكنك أن تتابع حركة السوريين وكيفية عملهم. السوريون لم يكونوا يوماً كسولين. يشهد لهم الجميع بذلك. يحاولون العمل في أي مكان وفي مختلف الظروف، لكن تسلط بعض «البلطجية»، وانعدام الأمن دفعهم للتفكير بإغلاق محالهم والتفكير بالسفر. «أبو العبد»، واسمه يدل على هويته، هو أحد السماسرة الذين يعرفون معظم المهرّبين المصريين ويتعامل معهم منذ أكثر من عام ونصف. يقوم الآن هو ومجموعة أخرى بالتعامل مع السوريين وتأمين سفرهم، هو واحد من مجموعة سماسرة سوريين يتاجرون بأبناء بلدهم. يروي أبو العبد تفاصيل عن مساعدته لسوريين عبروا البحر ووصلوا إلى أوروبا. يلوم السمسار الشاب الدرعاوي لأنه لم يلجأ إليه في الصيف الماضي. أبو العبد يعرف خبايا السوق. سعره أربعة آلاف دولار غير منقوصة. سعر نهائي لرحلة غير شرعية. تصل أو لا تصل ليس ذنب أبو العبد: «البحر غدار». لكل امرئ حظ وصدفة. أبو العبد حاسم. الرجل «الشعبي» العارف بخفايا ودهاليز المهربين، أعطى محمد رقم هاتفه، مقنعاً إياه بأنه «لا خيار سوى المغامرة».
ستة أوكتوبر مجدداً. هنا يتذكر محمد تجربته السابقة. يعتذر عن سرد تفاصيل هذه التجربة الفاشلة، يؤلمه البوح والخيبة. لكن ياسين صديقه يتابع سرد الرحلة المريرة حينما وضعوا المبالغ المالية المطلوبة لدى طرف ثالث قبل موعد الانطلاق إلى الإسكندرية. وضعوها في شاليهات مغلقة، بينما انتظر المهاجرون موعد الرحلة غير المحدد. كان ممنوعاً عليهم فتح نافذة أو الاختلاط بأحد تخوفاً من انكشاف أمرهم. لكن الحذر لا ينجي من القدر. باغتهم الجيش المصري في أماكنهم متذرعاً بحمايتهم من المهرّبين... غاضاً الطرف عن رحلة أخرى في الوقت نفسه. هكذا اقتيد الجميع إلى منطقة عسكرية تابعة لحرس الحدود في منطقة «أبي قير»، حيث تم احتجازهم في مكان يشبه الإسطبل. في البداية كانت المعاملة جيدة، حتى اكتشفوا صباحاً فرار خمسة شبان. قبض على اثنين منهم، وهنا بدأت المعاملة على الطريقة العربية. ركل بالأرجل وإهانات للشابين، ومن ثم تحويل الجميع إلى قسم الشرطة في مدينة الإسكندرية.
خرج من سوريا
نهاية عام 2011 متجهاً إلى الأردن، ومن ثم توجه إلى مصر التي كانت تستقبل اللاجئين السوريين بصدر رحب


باغتهم الجيش المصري في أماكنهم متذرعاً بحمايتهم من المهرّبين... غاضاً الطرف عن رحلة أخرى في الوقت نفسه

احتجز الشابين في مكان سيء يفتقر للنظافة والشروط الإنسانية حيث لا طعام ولا ماء، ناهيك عن ابتزاز مادي لقاء أي خدمة يؤديها أي عنصر. لم يقتصر الأمر على ذلك بل ظهر بعض المحامين وطلبوا مبالغ مالية بحجة أنهم يعملون للإفراج عنهم.
يضحك ياسين، وهو أحد الموقوفين، وهو يتذكر ذلك الشرطي الذي قال متوعداً «ه بعتكم عند اخويا بشار». دفعهم تهديد الشرطي للاتصال بمفوضية اللاجئين طالبين التدخل في القضيّة. تغيّر الموقف قليلاً إذ حضر صحافيون. فجأة قُدم لهم الطعام، وبدأ المحامون بالاستماع لهم برحابة. لكن الضغط عليهم لم يتوقف، فبعد التحقيقات، ومكوث أغلبهم في السجن لفترة شهر تقريباً، طُلب منهم حجز تذاكر طيران لمغادرة الأراضي المصرية، علماً أن معظمهم يحمل بطاقة طالب لجوء من مفوضية اللاجئين. والحال أن ذلك لم يجد نفعاً إلا مع بعض العائلات التي حصلت على إقامات في مصر لمدة ثلاثة أشهر.
سيغادر محمد الدرعاوي رغم أنه يعلم بعض الحقائق. لقد سجلت أقسام الشرطة المصرية احتجاز مئات من السوريين أثناء محاولتهم السفر بطريقة غير شرعية خلال عام 2013، معظمهم تم ترحيلهم ولم تستطع أية جهة دولية أو إنسانية حمايتهم من الاحتجاز وسوء المعاملة في مصر. قوارب الصيد المنطلقة من السواحل الشمالية المصرية هي أملهم الوحيد، رغم أنها محفوفة بسلسة طويلة من المخاطر، بدءاً من صغر حجم القارب واحتمال غرقه في أية لحظة، وقد شاهد الجميع هذا على ضفاف «لاميبدوزا». إنها الطريقة الوحيدة المتاحة في هذا الوقت ولا طريق آخر للسوري سوى المقامرة على حياته ومستقبله. عليه أن يؤمن 4 آلاف دولار، ويضيف إليها حياته. يركب القارب، ويقامر بالشيئين معاً.