البداية كانت مُحَمِّسة. بالتأكيد! أبحث عن بداية جديدة في منزل أطلق فيه العنان لحرية كبتتها أمي بهوس مرضي: لا تجلسي على التخت! لا تأكلي في غرفة الجلوس! الصالون للضيوف! أخيراً: بيتي. وعندما اخترته شريكاً لم أكترث بأنه مسلم وبأني مسيحية. لن أبدأ بالجملة الشهيرة «أنا ما كنت أعرف ما تعنيه كلمتا مسلم ومسيحي».
لطالما كرهت الادعاء الذي تحمله، فكأن قائلها نام واستفاق على حقيقة مرّة. لكن، علي أن أذكر «انتماءنا» الطائفيّ لأنه حوّل بحثنا عن منزل إلى «مغامرة» في عالم العقارات الطائفي. مغامرة «غير محسوبة»، قد تودي بصاحبها في نهاية المطاف إلى علب سردين «سنيّة» وأخرى «شيعيّة» وطبعاً «مسيحيّة»!
البداية كانت ساذجة، قمنا بالخطوة الأصعب، وكوننا في بلدٍ لا طبقة وسطى فيه، وبعد جهدٍ يصح وصفه بالـ«جهيد»، حصلنا على «دفعة الفرج»، الدفعة الأولى الشهيرة، وانطلقنا في بحثنا بفخر، إذ أننا تحدّينا «العائلة» والبلاد والنائب فؤاد السنيورة وتنكة البنزين. اتصلنا بالمنزل الأول الذي وقعت عيني عليه لقربه من سكن العائلة، في منطقة الحدث. عفواً...
«الحدت»، مع التشديد على حرف التاء المذكور في الكتب السماوية على أنه الحرف المسيحيّ بامتياز. اتصل صديقي بصاحب المشروع فقال إنه يريد دفعة أولى لا تقل عن ثلاثين ألف دولار أميركي وأن السعر كاملاً هو 180 ألفاً. يا للهول. لم يتضاءل حماسنا إلا عندما سأل «الأخ» عن اسم صاحب الاتصال، وفوجئ لأنه «مسلم». اعتذر قائلاً إنه «مستحيل يبيعنا». ذلك لأن البلدية «الوقورة» تحمل الدفاع عن المسيحيين وعن «ولاد الحدت».
طيّب. ما زال لدينا دفعتنا الأولى فليذهب هو وشقته إلى الجحيم. توجهنا إلى منطقة بسابا التي تقع قرب منطقة كفرشيما القريبة. حصل الأمر عينه وتكرر مع كل اتصال هاتفي. شعرنا بنبذٍ جارح وأوشكنا على شيء يشبه اليأس. أجّلنا البحث شهراً كاملاً، ثم نصحنا أحد الأصدقاء بالتوجه إلى منطقة بشامون حيث استقرّ هو وزوجته. كان صاحب العقار هناك لطيفاً. حضّر لنا لائحة بأفضل الشقق السكنية من حيث الشكل العمراني والواجهة التي تطل عليها الشقق، والأهم، طبعاً، السعر. البداية كانت مطمئنة. لكن سرعان ما «هاجت» الغرائز الطائفيّة.
الاتصال الأوّل:
-مرحبا! عفواً، أريد أن أسأل عن سعر الشقة في المبنى قرب نادي الفروسية.
جاء الصوت باردًا...
-ما اسمك؟
(اسم صديقي « سني بيروتي» أصيل وإن كان مثلي علمانيّاً حتى النخاع)
-أهلا وسهلاً بكما، أصلاً أنا لا أبيع إلا لأبناء منطقتي!
مع أن هذه المرة الأولى التي لا يُرَدُّ فيها طلبنا، إلا أننا شعرنا بإحباط واشمئزاز كبيرين، تفاقما عندما ذهبنا لمقابلة الرجل الذي «لا يبيع إلا أبناء منطقته». التقيناه في عيادته. نعم هو طبيب، طبيب لكلّ الناس. لم يصافحني نظراً لاعتبارات «شرعيّة». لم ينظر في عينيّ ولو لمرّة واحدة إنما اكتفى بالكلام مع «نظيره» الرجل. كلّما حاولت أن أستفسر عن أمرٍ ما... تجاهلني. النهاية كانت «تعليمية ــ تثقيفية». تعلّمت أنني أعيش «بطلوع الروح» في بلد لا يشبهني. تعلّمت أنني لو تحملت مديري السميك وزحمة السير الخانقة والدركي المزعج الذي يرمقني بنظرات مقرفة فإني لن أرتاح. تعلّمت أنه في بلدي حتى لو عملت ليلاً نهاراً، واشبعت ضجري بسيجارة وفنجان قهوة فإني لن أرتاح. لكي تعيش في لبنان: على الصالون أن يكون شيعياً، المطبخ سنياً والشرفة مسيحية، أما المدخل، فلنقل إنه سيكون درزياً. اتكالنا على غرفة النوم، علّها ترسّخ وحدة وطنية حميمة، على سريرٍ تكون وساداته... «حريرية»!