تحتار عن أي شيء تكتب، عن شاعرية المشهد أو عن بؤس أبطاله. عن جمال البحر والقوارب المتراقصة على الماء أو عن البحّارة الكادحين، المبعثرين ليلاً في غياهب وضعهم الاقتصادي القاتل. مع ذلك لا ييأسون، أو هو تعلُّقهم بمهنة يكاد مجتمعنا يعتبرها هواية لا مصدر رزق، ويمارسُها البعض كذلك.
«الفْلوكَة» كما يسمّيها البحّارة في البترون، وفي مناطق أخرى من لبنان، قارب خشبي بطول سبعة أمتار أو يزيد، مزوَّد بمحرّك يعمل على المازوت، ينقل بحَّارَين اثنين من الميناء الصغيرة إلى عرض البحر، حيث يرميان الشباك ويتركانها هناك، ليعودا بعد بضع ساعات، ملؤهما أملٌ بصيد يكفي عائلتين تعيشان من كنوز البحر، أو لا تعيشان. يطلقون عليها أسماء زوجاتهم أو بناتهم، أو حبيبات مفترَضات، عايدة ومارسيل وفانيسا وماري–جان، أو هي، الفْلوكة، حوريَّة البحر أو قاهرة البحار.
الغلَّة اليومية
تُباع بسرعة في بضعة محال في البترون


السماح بالصيد
خلال فترة وضع البيوض يقضي على آلاف الأسماك


صرفت وزارة
الأشغال مالاً كثيراً على الميناء من دون دراسة ذكية


وضعت الدولة
أنواعاً جديدة من السمك في البحر
اتَّضح أنها قاتلة
عشرة قوارب تنتظر الساعة الثالثة والنصف صباحاً ليأتي فرسانُها العشرون، ويطلقوا لها العنان، صوب الجنوب أو الشمال، بين البربارة وسلعاتا، إلى حيث يقوم التيّار البحري الملائم بتوجيه الأسماك، ويعودوا بها عند السادسة والنصف، محمَّلين بالغلَّة أو بخيبة الأمل.
وكيف تعرفون الوجهة الملائمة؟ «هو الإلهام»، يجيب حنا مبارك، الصياد الخمسيني الذي أمضى خمساَ وعشرين سنة في الإبحار بعناد بحثاً عمّا يقيه العَوَز. «رزقة، لا أحد يستطيع أن يعرف مسبقاً مكان وجود السمك». وبحسب الشباب – إذ لا صيّادات عندنا – قدَّمت جمعية إيطالية منذ سنوات معدّات لرصد حركة الأسماك، ولكن عبثاً، «ربّنا وحده العاطي». لا يقرِّر البحّار الوجهة التي يسلكها إلا عند الانطلاق. وبالفطرة، يصحّ توقُّعه، أو لا يصحّ.
«إذا اشتدَّت الريح ننصب الشباك بعيداً من الشاطئ لأن الأمواج تكون قوية عند تكسُّرها على الصخور وقريباً من الميناء. كما أن السمك حينها يبقى في عرض البحر»، يضيف إيلي أبو علي، ميكانيكي السيارات نهاراً والبحّار ليلاً. كثيرون مثله، لا يعتمدون على الصيد وحده، ولو كانوا محترفين، ومنتسبين إلى التعاونية.
وتعاونية الصيّادين في البترون تأسَّست عام 1985، كما يتذكَّر بيار مرعي، صاحب المركب السياحي وصديق الصيّادين، وشخص آخر رفض ذكر اسمه، كان هنا لشراء السمك. في كل مدينة أو بلدة بحرية تعاونية، وللجميع نقابة. أما تعاونية صيادي البترون، فتضمُّ حوالى 125 منتسباً، مئة منهم من الهواة الذين يصطادون للتسلية، وقد يبيعون المحصول إذا كان كبيراً. يدفع المنتسب خمسة آلاف ليرة شهرياً. من حيث المبدأ، وكما يقول أحد الصيّادين القدامى الذي أصرَّ وبشكل قاطع على عدم ذكره في هذه الأسطر، من واجبات التعاونية أن تسعى إلى الحصول على المساعدات من الجهات المانحة، خاصة ورسمية، وأن توزِّعها على الصيادين، لكنها هنا لا تفعل ذلك «فيه ناس بتاكل وبتطعمي، عنّا الشباب بياكلوا وما بيطعموا». ضحكات وتعليقات سريعة، بعضها للدفاع عن التعاونية، ولكن من دون قناعة.
يقول أحدهم: «للأمانة، حصلنا بعد حرب تموز 2006 على بعض المساعدات، من شِباك وطلاء للمراكب وما شابه، قدَّمتها جهات خارجية ووزَّعتها الدولة على جميع الصيادين في لبنان، عن طريق التعاونية».
الغلَّة اليومية تُباع بسرعة. بضعة محال لبيع السمك في البترون تستهلك الكمية الضئيلة أصلاً. يوصلها الصيّاد إلى المسمكة، ويُسجَّل المبلغ، ثم يتمُّ الدفع نهاية الأسبوع. «يتقاضَون ثلاثة آلاف ليرة على الكيلو. من دون أن يفعلوا شيئاً. لا مخاطرة ولا تعب ولا رأسمال للقارب والشبك وباقي المعدّات. يجلسون في المحل ويربحون. يلا صحتين». مثل سوق الخضار بالنسبة إلى المزارعين؟ يعجبهم التشبيه، فيعودون إلى الحديث عن التعاونية، وعن إمكانية إنشائها سوقاً للسمك، هنا في ساحة الميناء، فيستغني الشاري والبائع عن الوسطاء، لا يدفع الأول ثمن النقل، ويدفع الثاني مبلغاً أقلّ، وتكون البضاعة دائماً طازجة.

لا تكتفي محال بيع السمك بكميات الإنتاج هذه. مصادرها الأخرى صيادو طرابلس والسمك المثلَّج المستورد. أما أنواع السمك هنا، وبحسب التسميات البترونية، ولكلِّ منطقة تسمياتها، فعديدة، أشهرها: أبو شوكة، قْجاج، غبُّس، سْفرنا، تراخول، أبو دبُّوس، جرو، لقّز (رملي وصخري)، شقَيمس، فرفورة، رنغا، بْراق، زلَّيق، سمكة النايلون، واللائحة تطول. لكنَّ الأسماك ليست المُعيل الوحيد لهؤلاء؛ يعدِّدون أيضاً السلطعون والكاليمار والكركند والقريدس. وفي لحظة يعود التشاؤم: «كل شيء خفَّ اليوم، والحقُّ على الدولة؛ يسمحون لنا بالصيد خلال فترة وضع البيوض، وهذا يقضي على آلاف الأسماك الموعودة للموسم التالي. ليس خطأنا، فنحن لا نستطيع أن نتوقَّف يوماً واحداً عن الصيد. في كل دول العالم تقوم الجهات الرسمية بدفع رواتب شهرية للصيادين خلال تلك الفترة كما في الأشهر العاصفة عندما يستحيل الإبحار، أما عندنا، فالأمر لا يخطر على بال أحد».
أما السبب الآخر لاضمحلال الثروة السمكية، فيحظى بإجماع الشباب: شركة الكيماويات في بلدة سلعاتا. «يرمون سمومهم في البحر فيقضون على كل حياة فيه. حتى الصخور تتفتَّت هناك، وينتشر الضرر بسرعة ليطاول منطقة واسعة. هؤلاء أقوى من الدولة.

تشعر بالأسى في صوتهم، هم الضعفاء الذين يحرِّرون الأسماك القليلة العالقة في شباكهم على ضوء مصابيح خافتة، في ميناء جرى تحديثها منذ ثلاث سنوات، ومع ذلك لا تعجبهم، هم أصحاب الاختصاص في هذا المجال. يقول حنا، مدعوماً من المجموعة: «صرفت وزارة الأشغال مالاً كثيراً على الميناء، ولكنْ من دون دراسة ذكية. الدخول إلى الميناء والخروج منها صعب، والخطر كبير في أيام الشتاء بسبب الريح. نصحْنا المهندسين بإطالة الرصيف الخارجي لكنهم لم يستمعوا. لديهم شهادات جامعية وخبرة في إنشاء المباني وغيرها، واتَّضح أن هذا غير كافٍ. لا يمكن رسم خرائط ميناء واتِّخاذ القرارات في مكتب، بناءً على المعلومات النظرية». يضيف إيلي أبو علي: «حتى المنارات لم تُركَّب بعد. دخول وخروج على العتم!».

من مشاكل الصيادين هنا، أيضاً وأيضاً، وفي سياق الخطط غير المدروسة، أن الدولة، كما يسمُّونها، حصلت على أنواع جديدة من السمك وضعتها في البحر، اتَّضح أنها قاتلة، تفتك بالأسماك الأخرى وبالشباك وخيطان النايلون. منها مثلاً سمكة سمُّوها «الأرنب»، وحش ضارٍ كما يصوِّرونها، تقطع الشباك وتلتهم الأسماك الأخرى مهما كان نوعها. إذا كانت يدك بالماء عضَّتها وتسبَّبت لك بجرح بليغ. أمّا سمكة «الشلمونة» فتلحق بالقارب وتقطع خيطان النايلون وتسرق الأسماك العالقة في الصنارات. «بلد فوضى وما فيه شي مدروس». يتذكَّرون هنا قضية السلاحف البحرية التي تموت اختناقاً بعد ابتلاعها أكياس النايلون التي تظنُّ أنها قناديل البحر.
أما ما هو مدروس، فطرائق الصيد، بحسب الموسم وعمق المياه والطقس، وبحسب نوع السمك، فبعضها يسبح قريباً من القعر، والبعض الآخر على مستويات متفاوتة أقرب إلى سطح الماء. وسائل قديمة وأخرى حديثة نسبياً. الأشهَر والأكثر شيوعاً هو الصيد بالشباك التي تُرمى في الماء فتستقرُّ في القاع. يمرُّ السمك، فيعلق بها. يعود الصيّاد إلى شباكه بعد بضع ساعات، يستدلُّ إليها بواسطة بالونات بلاستيكية عائمة مربوطة بها، ويحملها على متن قاربه إلى الميناء. أما الوسائل الأخرى، فلها تسميات وتقنية مختلفة: «الشرَك»، عبارة عن سلَّة كبيرة من القصب تُثبت بها السنانير وتحتوي على طعم لجذب الأسماك. والـ«بولِص»، وهو مربَّع خشبي صغير تُربط به الخيطان والسنانير والثقّالات، يُرمى في الماء، ثم يُرفع بالبكرة بعد أن تقع الأسماك في شركه. والـ«جرجيرة» أو الـ«شرحَيط»، وهو أيضاً مربَّع خشبي، يُربط إلى المركب الذي يجرُّه وراءه، كما تدلُّ التسمية، فتعلق به الأسماك التي تسعى وراء الطعم المعلَّق به. والـ«قفص» المعدني الذي يحتوي على بعض الأعشاب التي يحبُّها السمك، تدخل إليها السمكة ولا تعرف كيف تخرج منها. والصيد على الضوء، أو الـ«لوكس»، ومفاده أن يقوم الصيّادون بإضاءة مصباح قوي جداً في عرض البحر، فتُبهَر الأسماك الصغيرة، ويتم التقاطها بواسطة شباك صغيرة. تُستخدم هذه السمكات كطعم لاصطياد السمكات الكبيرة. والصيد بالـ«جاروفة»، وهو أن يتمَّ ربط شبكة كبيرة بمركبين يتقدَّمان معاً لالتقاط السمكات الكبيرة. وأخيراً، الـ«مصيدة»، وهي عبارة عن شباك كبيرة تُترك بشكل دائم في قعر البحر، وينزل إليها الغطّاسون من وقت لآخر لالتقاط الأسماك العالقة. والمصيدة ممنوعة قانوناً، لكنَّ البحّارة أكَّدوا أن العديد من الصيّادين المدعومين لديهم رخصة بذلك من الجهات المختصَّة.