في عرف الصيادين، الموج الهادئ بشارة بأن غلّة رحلة الصيد ستكون وفيرة، فالأسماك تقترب من سطح الماء في مثل هذه الظروف المناخية. على هذا الأمل انطلقنا من ميناء الصيادين في صور قرابة الرابعة والربع فجراً. ينشغل الصياد ميلاد الخوري بتمرير بطاقات هوياتنا لمركز المخابرات في الميناء، إذ يجرى تسجيل اسم كل قارب يخرج منه مع أسماء ركابه. اسم القارب: الراعي الصالح، تيّمناً بالسيد المسيح «حتى يحمينا في البحر» يفسّر ميلاد سبب التسمية.

على هذا المنوال الغيبي، سمّى صيادون في الميناء قواربهم: علي، حسين، محمد، مريم، فاطمة، سانت تيريز.
يسير الراعي الصالح فوق الماء بسلاسة. هو مؤشر مطمئن لمن يركب قارب صيدٍ للمرة الأولى، ويسمح بإمعان النظر نحو مدينة صور. تبدو كتلة ضوءٍ أكثر تماسكاً، كلّما توغل القارب في البحر.
نتجاوز مئات الأمتار بسرعة، صوت محرّك القارب مزعج جداً، وكذلك رائحة المازوت المحترق. في البداية، سنتوجه نحو منطقةٍ تسمى الجزر، غير بعيدة من الشاطئ، بمعنى أن المدينة تبقى في مرمى البصر. لا يمكن وصول الجزر في العتمة، هي أصلاً صخور نافرة من وجه البحر وليست جزراً حقيقية.
في الطريق إليها، التي حفظها كاسمه، يسحب ميلاد «الجرجارة»، وهي عبارة عن خيط طويل جداً مليء بريش الدجاج. هكذا يبدأ ميلاد بتقفّي وجود الأسماك، التي إن وجدت في محيط القارب، ستتبع ريش الدجاج لأنه يبدو كالسمك الصغير. تمرّ عشر دقائق، والجرجارة فارغة بلا سمك. الأمر يدعو للتشاؤم، لكن لميلاد رأي آخر «قد نبقى ساعة بلا صيد، ثم في لحظة واحدة تنقلب الأمور». لولا هذه القناعة لكان الأمر مضجراً. رومانسية الفجر المنبلج رويداً رويداً تدغدغ عيون زوّار البحر، وليس وجوه سكانه الذين اعتادوها. طالت رحلة الجرجارة من دون جدوى. فجأة ارتفع المركب وكاد ينقلب، لم يتأثر ميلاد ومعاوناه، وجهدوا لطمأنتنا «هنا نقطة لا عمق فيها، ومن الطبيعي أن يرتفع الموج فيرفع المركب». يتجه صوب ناحية أخرى، يلامس الضوء وجوه أهل البحر، هم قلّة خلافاً لما توقعنا. قوارب لا يتجاوز عددها العشرة، متناثرة في البحر كمفاتيح الموسيقى على خط النوتا.
ميلاد، من القلائل الذين يبحرون فجراً، أكثرية الصيادين تبحر بعد الغروب، لأنهم يمارسون وظائف حرة صباحاً، وبلغة الصيادين هو رزق البر. طبعاً ليسوا موظفين، هم عمال في السوبر ماركت وأشياء من هذا القبيل. يعود ميلاد إلى سيمفونية القناعة ويستشهد بقول للإمام علي بن ابي طالب، محاولاً بث الأمل مجدداً: عليك بتقوى الله إن كنت غافلاً/ يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري/ كيف تخاف الفقر والله رازقك؟/ وقد رزق الطير والحوت في البحر...
أربعون عاماً
تكفي لأن يقول الصياد: «لقد أكل البحر من لحمنا»

بدا أن الجرجارة فشلت هذه المرة، ولا بد من أساليب أخرى لتحديد مواقع رفوف الأسماك. يخلع وليد، أحد مساعدي ميلاد، ثيابه، يرتدي منظاراً بحرياً ويستعد للغوص حول المركب. يرمي نفسه في البحر فيبتعد القارب، ليبقى وليد يفتش عن السمك وحيداً في عرض البحر. الأمر مقلق، فأجسام الصيادين الذين رافقناهم مترهلة نسبياً، ولا توحي بتحمل السباحة لوقتٍ طويل في منتصف البحر. يضحك ميلاد ويردّ الأمر إلى التعوّد «وليد نفسه أطول من أحسن سبيح، انشالله يجيب خبر حلو».
لكن هذا الخبر لم يأتِ، عاد وليد طالباً تغيير وجهة الإبحار، وكرّر السيناريو نفسه. رفع يده والتقطها أخوه، وأشار إلى وجود سمك في الناحية حيث غطس. قد يبدو الأمر مملاً لكن ليس مع تهيئة الشباك. أربعون عاماً من الصيد في صور وجوارها، تكفي لأن يقول الصياد ميلاد، وهو في عرض البحر: «لقد أكل البحر من لحمنا». قالها مبتسماً، تنهّد، ورمى شباكه الكبيرة بين أمواجٍ رخوة، وعاونه وليد، فيما بدأ ربيع برمي قطعةٍ من الحديد في محيط الشباك واسترجاعها ثم رميها مجدداً. حين يصدر صوت ارتطام الحديد بالماء، يهرب السمك وفي طريق النجاة التي يختارها، تكون ثقوب الشباك بالانتظار. يلتف القارب في مسافة ٤٥٠ متراً لتوزيع الشباك، نتركها لدقائق قبل أن يبدأ الصيد. دوار البحر يغير لون وجوهنا نحو الاصفرار قليلا، الرحلة ممتعة لكنها متعبة أيضاً. يشير ميلاد بالنصيحة «اعمل غطة بقلب المي بتروح لعية النفس»، لم نستجب.
ترتعش الشباك عند نقطة معينة، يبدأ سحبها. من جديد السمك ليس وفيراً اليوم. تلمع سمكة مرمور في الشمس كأنها قطعة من الفضة، ثلث ساعة من سحب الشباك أسفرت عن ٧ كيلوات سمك تقريباً تنوّعت بين ٤ كيلوات من المرمور والمواسطة والمسقار وسمكة وزنها ٣ كيلوغرامات تقريباً. هذه ليست غلة في حسابات ميلاد، إذ يجب أن تكون بعشرات الكيلوغرامات. تكاد الساعة تتجاوز التاسعة والنصف صباحاً. على مضض، يستجيب ميلاد لطلبنا في العودة إلى الشاطئ «يللا لو في رزق اليوم كان بيّن»، ويستسمح ببضع دقائق ليسبح قليلاً «السباحة هنا تردّ الروح» يقولها بعد عودته إلى القارب.
لو طال وقت الرحلة، كان ينوي التوجه نحو منطقة القاسمية، حيث يعتقد الصيادون بوجود حفرةٍ عميقةٍ موحلة مليئة بالسمك، تستقر فيها الشباك من دون أن تتمزق، كما الحال في مناطق الصيد الصخري. الشباك هي الأخرى من أبرز هموم الصيادين. يتحسر ميلاد بسبب منع بلدية صور للصيد بالشباك ذات الأعين الصغيرة المخصصة للسردين. مر موسم السردين أمام عينيه من دون أن يستفيد منه، قبل السماح أخيراً بصيد السردين «بعدما تأكدوا من أن صيادي الموانئ الأخرى البعيدة من صور يصطادون السردين بأحجامه المختلفة». هل فات الأوان لذلك؟ ربما، لكن التفاؤل بالسمك المهاجر عبر المياه اللبنانية يبقى قوياً، ولا سيما من مطلع تشرين الأول وحتى نهاية فصل الربيع، بانتظار مواسم المليفة والبالميدا والفريدة والجربيدي وغيرها.
لا تسدّ غلّة ميلاد هذه المرة سوى ثمن المازوت، والذي يدفعه على مراحل كلما تأمن مبلغ بيده. الأمر نفسه يتكرر بالنسبة لصيانة القارب وعدة الصيد. لا يخشى من متانة قاربه «بيعيش بعد ٣٠ سنة، عمرو من عمر ابنتي الصغيرة، شي ١٨ سنة». هو أيضاً عمر العمل المشترك مع وليد وربيع، معاونيه الفلسطينيين. هذه العشرة الطويلة تدفع ميلاد إلى تقاسم الغلة معهما «نص بنص، والتكاليف صيانة المركب سنوياً بمبلغ ٤٠٠ دولار كحد أدنى. عشرة ١٨ سنة بلشو معي كانوا ولاد». ثمة صيادون يقسمون الغلة إلى خمسة أجزاء، ثلاثة للصياد ومعاونيه واثنان يتم ادخارهما لشراء شباكٍ جديدة وصيانة المركب.
لن يبيع صيده للمسمكة هذه المرة، اقتنصنا فرصة شراء السمك الطازج في البحر. عادةً، يتوزّع السمك الطازج على المطاعم والفنادق وبنسبةٍ أقل يذهب إلى أسواق السمك، المتخمة بالسمك التركي والأفريقي المثلج أو سمك المزارع. في السوق، تبدو السمكة المستوردة حوتاً يأكل السمك البلدي لجهة المنافسة. سعرها رخيص ومتوفرة بكثرة، وهذا يكفي لتحويل السمك البلدي ترفاً غالي الثمن. في الميناء ضجة طفيفة، يخلق البحارة ترفهم الخاص. يسحب ميلاد معاليق أسماكٍ كبيرة، ستكون وجبة غدائه المحببة. ينسى أن رحلته لم تكن موفقة، ويدعونا لرحلة أخرى يكون فيها الصيد وفيراً وتستمر حتى ساعات الغروب.