طوال قرون لقّبت طرابلس بـ«مدينة العلم والعلماء» بفعل انتشار المدارس والكتاتيب فيها، والتي كانت تنتشر في جميع الأحياء والزوايا. أما اليوم، فلم يبق منها سوى مجموعة أبنية مهملة وأماكن هجرها مرتادوها وتركوها عرضة للنسيان. الشيخ علي الشلبي، 82 سنة، هو أحد الذين تتلمذوا في تلك المدارس وتنقل بين مراحلها المختلفة. يذكر أنها كانت تقسّم إلى مدارس للذكور وكتاتيب للإناث والأولاد الصغار بالعمر، وكانت نهارية، تقفل عند العصر لأنها لم تكن مزودة بأدوات الإنارة وقد خرّجت جيلاً من كبار العلماء والمثقفين في طرابلس.
وتتحدّث الحاجة سعاد، 72 سنة عن تلك المرحلة بفرح مشيرة إلى أنها كانت تتعمد، كل يوم، خلال مرورها أمام مدرسة الخيرية حسن الوقوف عند الشباك للاستماع إلى الذكور الذين يتلون القرآن ويقرأون النصوص العربية. فالمدارس في تلك المرحلة لم تكن مختلطة كما أنها لم تكن متاحة لجميع الفئات الاجتماعية.
لا شيء اليوم يدلّ إلى هذا الماضي القريب. في جولة سريعة في أحياء المدينة القديمة يمكننا أن نلاحظ نموذجين: الأول هو تحوّل بعض المدارس والكتاتيب إلى مصليات، في المقابل يعاني العدد الأكبر من الإهمال والإغلاق. ويذهل المارّ في المكان أن مكتبة الجامع المنصوري الكبير، المقفلة منذ زمن، جرى تحويلها الى مستودع توضع فيه قطع الأثاث القديمة بعدما نقلت الكتب التي كانت فيها الى «القصر البلدي – نوفل» بجهود أفراد على رأسهم د. عمر تدمري.
استهداف تاريخ طرابلس بدأ عقب فيضان نهر أبو علي


أما مدرسة «الخيرية حُسُن»، فتحولت منذ سنوات إلى وقف لإكرام الموتى. وفي حوار مع المشرف عليها، أشار إلى أنها من المدارس القليلة التي ما زالت تؤدي خدمة للعامة. ويذكر أن المبنى الذي يوجد فيه منذ عشرات السنين لم يتعرض للصيانة ويتحدث عن مشروع طرح منذ التسعينيات من أجل إغلاق الشارع المملوكي أمام السيارات وتحويله لمنطقة سياحية «إلا أنه لم ينفذ، لا بل ساء وضع الآثار وبعض الأقواس تم تدميرها لتوسيع الطريق أمام السيارات».
بدورها، تحوّلت المدرسة الشمسية إلى مسكن. وعند سؤال قاطنيها، يؤكدون أنها لم تكن يوماً مدرسة. في المقابل يستغرب أحد المهتمين بالآثار في تلك المنطقة كيف جرى تحويلها إلى مسكن فهي في النهاية يجب أن تكون وقفاً. أما المدارس السقرقية والخاتونية فلم تشفع لها اللوحة الموضوعة على أحد جدرانها، والتي تشير إلى انتهاء عملية ترميمها على نفقة فاعلي الخير. فهي بدورها تعاني من إهمال مستفحل، إذ جرى إقفالها وتحولت أبوابها إلى بسطة لبيع عصير الليمون. وعند سؤال البائع إذا كان بالإمكان الدخول إليها يجيب بأن «المشهد الخارجي رغم فوضويته أحسن بكثير من حالتها الداخلية».
يؤكد المؤرخ د. عمر تدمري أن ما يسميه استهداف تاريخ طرابلس بدأ عقب فيضان نهر أبو علي في خمسينيات القرن الماضي والتطورات التي أعقبته. ويوضح أن «المدينة كانت تحوي قرابة 360 مدرسة تقلص عددها اليوم الى 28». ويلفت إلى أن «مقام مولانا الميقاتي ومقابر أئمة المسجد المنصوري الكبير هدمت خلال ورشة ترميم المسجد التي تولتها مؤسسة بهاء الحريري رغم النداءات التي تم توجيهها للحفاظ عليها».
كما يشير تدمري الى «تقصير الجهات الرسمية ودائرة الأوقاف في الحفاظ على آثار أواخر المدن التاريخية التي ما تزال مسكونة». وعن موضوع المدارس، يشير إلى «تحويل دائرة الأوقاف الريوع المخصصة لخدمة هذه المدارس وصيانتها إلى نشاطات أخرى، كما أن وزارتي السياحة والثقافة لم تقوما بأي جهد على هذا الصعيد». ويحمّل تدمري الجهل دوراً كبيراً في القضاء على هذه الثروة «فحي اليهود لم يبق منه إلا الاسم، والأمر عينه يتهدد الآثار الإسلامية والمسيحية اليوم» مستغرباً حديث البعض عن عدم وجود آثار في الإسلام «يجب الانتباه لما يخطط من القضاء على الآثار التي تشكل شاهداً على حضارتنا وتجذرها في هذه المنطقة».