لا مزروعات في سهل عكار هذا العام. لا وجود للعشب الأخضر الجميل، بل «سيارات على مد عينك والنظر». شح المياه أجبر المزارعين على ترك أراضيهم، ما سمح للصيادين الهواة منهم والمحترفين بأن «يسرحوا ويمرحوا» في السهل. حوالى 200 صياد يتجولون في سهل عكار يومياً، يركنون سياراتهم على الطريق ويتوغلون داخل الأرض سيراً على الأقدام.

ذروة وجودهم تكمن عند ساعات الفجر الأولى، لأنه «التوقيت الأمثل لاصطياد العصافير» يقول أحدهم. «تستيقظ الطيور جائعة وتحلق بعيداً بحثاً عن طعام، فنكون نحن بانتظارها». يطول الانتظار، يسير الصيادون وعيونهم معلقة في السماء. «الموسم خفيف هالسنة»، يعلّق آخر متفهماً «قد تكون قلة المياه أثرت على الطيور أيضاً، فعندما لا يجد الطائر مرعى مناسباً له يرحل بحثاً عن مكان آخر».
يقطع الشبان مسافات كثيرة خلال سيرهم من دون أن يشعروا. ينقلون البنادق من كتف إلى آخر. ويتناوبون في حمل زجاجات المياه. يغنون مطلع أغنيتهم المفضلة «طلوا طلوا الصيادي وسلاحن يلمع». يتبادلون الأحاديث حول الطيور وأنواعها. يشتد النقاش حول طائر الحجل. يجمع الصيادون على أنه من أكثرأنواع الطيور التي يصعب اصطيادها. بحسب ربيع، «يمرّ بسرعة فائقة في السماء ويصعب علينا تحديد مكانه، فضلاًً عن أنه من الطيور التي يمنع اصطيادها لأنه مهدد بالانقراض». كلامه لا يلقى استحساناً عند رفاقه. فيتحدى الشبان بعضهم بعضاً ويقررون مبادلة بنادقهم في حال استطاع أحدهم اصطياد طائر حجل. يبدأ كل منهم بسرد إنجازاته.
هناك اعتقاد خاطئ بإمكانية اصطياد الطيور المهاجرة لأنها لا تعيش هنا

يروي رامي كيف تمكن من اصطياد نسر. بينما يفاخر آخر بأنه اصطاد ورفاقه ما يقارب ألف عصفورٍ في ليلة واحدة. يزداد العرض تشويقاً مع كشفهم عن حيلهم التي يستخدمونها لجذب العصافير. يتضح أن «السكسيكة» أشهرها. هي عبارة عن آلة صغيرة تنسخ عليها أصوات الطيور. يضعها الصيادون على جذع إحدى الأشجار طيلة الليل، يستفيقون ليجدوا الطيور تحلق في مكان وجودهم، وتبدأ «حفلة القتل». كما يستخدمون المصابيح المضيئة عند لجوئهم إلى الصيد ليلاً، أو يعمدون إلى إشعال حلقات من النيران لما لها من تأثير على حركة العصافير. فضلاً عن استخدام بعضهم بنادق حربية، معظمها مزود بمناظير فائقة الدقة.
أغلبهم لا يرى في الصيد أي ضرر بيئي، بل يرددون «الصيد هواية»، فيما يقول آخر «عموماً قتل العصافير أحسن من قتل البشر». بينما يتهكم ربيع «قديماً كان الرئيس كميل شمعون يصطحب عدداً من النواب والوزراء إلى عكار ليصطادوا، ويعودون وبحوزتهم صيد يكفي لإقامة ولائم على مدى أشهر، كما أن النائب سليمان فرنجية يصطاد بشكل شبه يومي وتلتقط له الصور التي تعرض عبر وسائل الإعلام، حتى الساعة لم نسمع أن محبي البيئة والعصافير قد عاتبوه على فعلته».
وعلى الرغم من أن لعكار الحصة الأكبر في ممارسة الصيد البري، نظراً لكونها تمتد على مساحة 79787 هكتاراً، وفيها أربع مناطق مناخية مختلفة تساعد في توطين مختلف أنواع الطيور وفي كل الفصول، إلا أن «حب» الصيد يجري في عروق معظم اللبنانيين. فكما في عكار، كذلك في الهرمل وبعلبك، تكثر المجازر المرتكبة بحق الطبيعة، ولا سيما أن قانون منع اصطياد الطيور قد أُقرّ في لبنان منذ 15 عاماً كما يوضح رئيس مجلس البيئة في عكار أنطوان الضاهر. ويشير إلى أن «الصيد في عكار لا يقتصر على العكاريين، بل يوجد أشخاص من بيروت وجبل لبنان يأتون إلى هنا لممارسة الصيد». يؤكد الضاهر أن «الطبقة السياسية في البلد ولا سيما الطبقة الثرية أفضت إلى تكريس الصيد البري كهواية للتسلية، وليس كجرم يعاقب عليه القانون. حتى ارتبط الصيد البري بعادات السكان وتقاليدهم، بات اصطياد الطيور في عكار والهرمل بمثابة عرفٍ يتفق عليه الجميع، ولا سيما أن السلطة السياسية تلعب على الحبلين. من جهة، توقع مراسيم وتقر قوانين للمحافظة على البيئة تظهرها أمام المحافل الدولية، ومن جهة أخرى تبقي معظم محال بيع لوازم الصيد والأسلحة موجودة في السوق». يتابع «يرى بعض الصيادين أنه يمكنهم اصطياد الطيور المهاجرة لأنها بالأصل لا تعيش هنا، لكنه اعتقاد خاطئ لأن قتل الطيور على أنواعها يؤدي إلى اختلال التوازن البيئي، مثلاً طائر السنونو هو أحد أهم الطيور المهددة بالانقراض، يأكل المليارات من حشرات البرغش، وقتله أحدث اختلالاً في التوازن البيئي بدأنا نشعر به».

ومن الطيور المهددة بالانقراض أيضاً، ما يعرف بطائر أبو الحسن، الحسون، السرشور، أم صفيرة، الهدهد، أبو منقار، البلبل، البجع، اللقلاق، البوم، النسر، الصقر والباز. وهي معظمها أسماء يجهلها الكثير من الصيادين. يرى عامر ياغي، أحد أشهر الصيادين في عكار أن «صفة صياد لا تُعطى لكلّ من حمل سلاحاً ومشى في الجرد، لأن الصيد بالدرجة الأولى هو أخلاق، والكثير من الصيادين اليوم لا يملكون معلومات عامة أو ثقافة حول الطيور التي يصطادونها». ويذكر «قديماً كنا نمشي مسافات طويلة خلف الطيور ونراقبها لنعرف كيف يمكن أن نصطادها، كنا نشعر بأهمية الطير، ولا سيما أن طائر الهدهد كان رمزاً للبنان قبل اعتماد الأرزة. أما حالياً، فمعظم الشباب لا يميزون بين طائر الفري والسمّن».
وعن مراقبة قوى الأمن الداخلي للصيادين، يؤكد أحدهم أن «الرقابة تأتي أحياناً بسبب الأسلحة غير المرخصة، ولكن لا أحد يوقف صياداً ولو كان بحوزته كل طيور السماء، حتى إن بعض العسكريين يصطادون الطيور مثلهم مثل سواهم وببزتهم العسكرية أحياناً».
وتنشط حركة الصيد البري كثيراً في عكار، بدءاً من أول أيلول ولغاية 31 كانون الثاني، حيث يلجأ بعض الشبان إلى بيع ما يصطادونه بتكلفة مرتفعة. ويكشف عبد اللطيف مراد أحد أبرز الصيادين الشباب في عكار أن «عدداً من الصيادين يبيعون صيدهم إلى بعض المطاعم مقابل 3 دولارات أميركية لكل طائر. كما أن بعض محبي لحم الطيور يأتون من بيروت لشراء العصافير، وقد وصل سعر العصفور الواحد بسبب ندرة الطيور هذا الموسم إلى 4 دولارات لكل طائر». ويشير مراد إلى أن «من يبيع صيده لا يخرج من الأرض قبل أن يقتل ما يقارب الـ 600 طائر في اليوم الواحد». ونتيجة لتحول «هواية» الصيد إلى مهنة، يجني عبرها بعض الشبان أموالاً وفيرة، بات تكوين رأي عام واعٍ لخطورة الصيد البري في عكار والجوار مهمة صعبة ملقاة على عاتق كل المنظمات البيئية المعنية.