هل تعرفين ما الذي تعنيه رائحة المكان؟لم ينتظر محمد خياطة، يوماً، جواباً من أحد. كانت تكفيه متعة هذا السؤال فقط. متعة الشعور بأنك تشم رائحة ياسمين «باب توما» في لقطة فوتوغرافية، أو خشبة منزوعة من كرسي عتيق كان هناك.

محمد خياطة يتقن كل هذا، ولن ينتظر بعد جواباً، فهو عندما ترك حيّ باب توما، قبل عام ونيّف، إلى لبنان، حمل رائحته... وسبعين لوحة، هي كل ما أنتجه فيها.
لم يكن ينوي البقاء طويلاً هنا. كانت رحلته لسبعة أيام فقط، يفتتح خلالها معرضه الفردي الأول «house no 5»، على أن يعود بعدها إلى مدينته ليكمل دراساته العليا في معهد الفنون الجميلة. لكنه، لم يعد. هكذا، صار عليه البحث عن مكان يشبه مدينته ليرتب غربته.
كانت الشام بالنسبة لمحمد المدينة «الرايقة». كان ذلك قبل أن «نسمع أول رصاصة هناك»


لولو. الهرة التي ابتعلت يدها سلحفاة «بحرة الديار» في باب توما لجأت هي الأخرى إلى لبنان بعدما اضطر صاحب البيت هناك إلى إقفاله بسبب الحرب


الرصاصة التي غيرت حياة عائلات كثيرة، والتي استبدل حشوتها محمد بالذكريات، «استحالت صاروخاً في سماء الشام»

من طرابلس إلى بيروت، كانت الوجهة. مكث في منطقة الحمرا، لكنها لم تكن تشبه باب توما. انتقل إلى مكانٍ آخر، إلى أن وجد بيتاً عتيقاً في مار مخايل النهر «هيدا الشي بيشبه باب توما بروح الأشياء، وبيشبه عشوائية الأبنية المايلة على بعض بالطريقة الحنونة اللي كانت عنّا».
في مار مخايل، يثقل الزمن الأبنية بألفة. وهو، تماماً، ما يبحث عنه خياطة. وجد ضالته هنا، حيث يشعر الداخل إلى بيته أن كل شيء رسمه أو صوّره خياطة يحمل شيئاً من باب توما. على الجدران، يعلّق الصور واللوحات التي أتى بها من البيت الذي سكنه مع أربعة عشر فناناً، وعلى المنضدة وضع 3 خشبات مرسوم عليها أبواب وشبابيك عتيقة «هي نفسها اللي كانت بالبيت» وعلى الكنبة التي بهت لونها الأخضر، رمى الشرشف المرقع «الذي يشبه المدّة التي كانت تحيكها أمي».
هكذا، انخرطت باب توما في كل شيء. أما ما نقله من بيروت، فحاول قدر الإمكان المحافظة فيه على الشعور ذاته، إذ كان يلتقط صور الأبنية التي تشبه كل شيء هناك في السلم، والحرب التي فعلت الكثير في رسوماته وصوره. فالحرب التي «كركبت» حياته انعكست أيضاً في أعماله، التي كانت عبارة عن رصاص وأحشاء بيوت مبقورة و»خبصة» ذكريات رقّعها خياطة، بنفس الطريقة التي كانت أمه تصلح فيها الثياب. وهي كلها «مستوحاة من المشهد اليومي الحاصل في سوريا. وهي بمثابة أشياء نفعلها لمجرد البقاء على قيد الحياة»، يقول. هذه «الكركبة» التي جمعها أخيراً في معرض حمل عنوان «أجزاء وقطع»، يعيد فيه ترتيب أشياء نفقدها، منها «الذكريات». من هنا، مثلاً، كانت فكرة الرصاصة التي استبدل حشوة البارود فيها بعدد هائل من الذكريات.
في الغربة، يتحول الإنسان «إلى كومة من الذكريات»، يقول محمد. حتى الشرشف المرقّع «والذي نسميه في سوريا المدّة، أعيد من خلاله حياكة سوريا عبر جمع قصص اللاجئين وتصويرهم مدثرين به». لكن، ليس المطلوب في أعمال خياطة، الذي بدأ حياته كمهندس ديكور، لتحوله «الظروف» إلى رسّام ومصوّر، تحويل الحاضر إلى ماض، فهو يعمل أيضاً على أن يكون للوحاته وصوره وظيفة أخرى، هي إيصال فكرة. ويعطي مثالاً على ذلك لوحة «سدّ ثقب الأوزون بحقائب السفر». أما القاسم المشترك بين رسوماته وصوره، فهي كثرة العناصر الموجودة فيها، والتي تحيلنا على تفسيرين: شبهه بحياته «المكركبة» اليوم، وبمدينته وعشوائيتها الحميمة، مع «شوية» حنين.