كان يمشي بتأنّ اضطراري من دون أن تسبب له الضرورة أي إزعاج لافت. تسبقه الطريق ويبدو كأنه يطاردها مستسلماً للعبة. لا يبالي بشيء، ونحن أيضاً لا نبالي. وبالنسبة إلينا، وله أيضاً، لم تحدث تحولات كبرى، هنا، في نزلة الراشدين كما يسمّيها قدامى المنطقة، حيث نزلة الحُص إلى اليمين، وآخر الطريق يقود إلى الحمرا، وإلى مبنى الكونكورد إذا انعطفت يميناً. لم يكن الطقس بارداً إلى تلك الدرجة، لكنه كان يرتدي جلباباً، من ذلك النوع الذي يسكنه أصحابه في جميع الفصول. واستمر في لامبالاته حتى عندما بدأ المطر بالهطول.
لم يختبئ تحت سقفٍ، ولم يهرول خوفاً من بلل. راحت عصاه تقفز أمامه، وبدت ابتسامته أكثر وضوحاً تحت نظاراته الداكنة.
قال إنه يعرف أين هو، معقباً على جوابه بضحكةٍ ساخرة. وفي معرض الثرثرة، سرد سلسلة من الأوصاف الدقيقة للمكان: الرصيف، الموقف المهجور، مخفر مينا الحصن، وتفاصيل أخرى هنا، فيما اتفقنا على تسميته نزلة الراشدين. الرجل الذي فقد بصره في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، يحتفظ في رأسه بصورة دافئة لبيروت، لم تمسها إعادة الإعمار. يعرف الطريق إلى الصنائع وإلى الوتوات وإلى الظريف، من موقعه في النزلة. يعرفها من هنا، قرب شجرة عملاقة ربت عليها بعصاه، مبتسماً إذ وجدها في مكانها، فاحتفل بالابتسام كما يفعل المنتصرون. ثم تحدث عن عمارة بقناطر زرقاء، ليست موجودة من أول الطريق إلى آخرها. عرفنا لاحقاً أن أصحابها باعوا العقار وهاجروا، غير آخذين في الحسبان أن الرجل الأعمى لن يبيع قطعاً من ذاكرته. وحدثنا بثقة عن بناية زهريّة من بضع طبقات، على الزاوية تماماً، كما جزم. بيد أن تلك البناية الرقيقة لا يدخلها أحد اليوم. لا يدخلها أحد لأنها لم تعد موجودة. وكلما ازدادت الثرثرة تأكد المنصت إلى حديث الأعمى بأن الأخير صادق في ما يقول، إنما يتحدث عن المدينة المفقودة. وفي قصائد الشاعر العراقي الراحل، سركون بولس، تسمى مدينة أين.
شارفنا على الوصول. كان يتابع سيره وعيناه تسبحان في بياض كثيف كالغيم المتلبد فوق الشوارع. يعتقد أن سكاناً يقيمون في تلك الأبنيَة، لكنهم في الواقع غادروا. غادروا، لأن الأبنيَة لم تعد موجودة، أو لأنهم ماتوا. ينتظر أشخاصاً لكي يرموا أبصارهم من الشرفات إلى الأرض، لكن الشرفات التي تحدث عنها سقطت بعد 1975. ينتظر أن تدلف أيديهم إلى شبابيك من تلك المُحبَبة التي كانت في أيامه، فيكون طولها أكثر من عرضها، خشبيّة غالباً، وتدار بمقابض صغيرة تُصدر صريراً أليفاً يعلن بدء النهار أو نهايته. وإن كانت حديديّة، تكون حدائدها منمقة حتى وإن صدأت. مشى صديقنا، على الحافة تماماً، وكاد أن يصطدم بسيدة تدس النقود المعدنيَة بلا جدوى في آلة الباركميتر. وكان من الصعب جداً تفسير وظيفة الآلة للأعمى، الذي يعرف، أكثر من الجميع، وظيفة الرصيف. ابتسمت له السيدة فبادلها الابتسامة حالما شعر بأن الطريق صارت سالكة أمامه، ثم اتكأ بعصاه على لوحة إعلانيّة ضخمة، مطمئناً إلى وجود المدينة في مكانها. لكن المدينة التي في رأسه انتهت. وتلك الشبابيك التي يظن أن أهلها يخرجون إليها ويحرسونه أغلقت. وربما مات أهلها وأخذوا معهم المقابض إلى الأبد، غير أن أحداً لن يجرؤ على إخباره بذلك.