في أحد قصور بلدة شقرا (بنت جبيل) يلعب الطفل السوري قصي الجاسم (6 سنوات) مع أخوته الأربعة، في حديقة مجهزة بكل ما يلزم لرفاهية الأطفال. هولا يمزح عندما يقول «لا أريد العودة الى سوريا، أنا ألعب هنا كثيراً، وكل شيء مؤمن لنا».
ينصح المهندسون بالاعتناء بالحدائق التي ثبت أنها الأكثر استخداماًفيما يقوم والده بقطاف وتشحيل الأشجار المثمرة، مقابل بدل مالي يعادل 400 ألف ليرة، مع السماح له بالعمل خارج القصر. يرى الأخير أن «العمل في خدمة القصور فرصة استثنائية للنازحين السوريين، فنحن بذلك نوفر أكثر من 300 الف ليرة كنا سندفعها مقابل أجرة منزل خاص بنا»، ويؤكد أن «عشرات النازحين يعملون في قصور المنطقة الفارغة، يعتنون بحدائقها، ويؤمنون حراستها، ويأخذون حاجاتهم من ثمار الأشجار المزروعة، بانتظار قدوم أصحاب القصور، الذين لا يأتون إلا صيفاً ولأيام قليلة فقط».
يعبّر المغترب جواد خلف عن ندمه على بناء قصره الكبير، الذي كلّفه مئات الآلاف من الدولارات. يقول «أنا اليوم أسكن فيه مع زوجتي والخادمة. أما أولادي فمسافرون، ويفضلون الإقامة في بيوت مستقلة، لذلك كان الأجدى لي أن أبني منازل صغيرة لهم بدل هذا القصر الضخم الذي لا نستطيع الاعتناء بتنظيفه كل يوم، ولذلك اخترنا بعض الغرف للسكن فيها وتركنا الغرف الباقية مقفلة».
وهذا ما يؤكده أحد مهندسي البناء في بلدة شقرا، التي تضمّ وحدها أكثر من مئتي قصر للمغتربين، فيما تقفر أحياء بكاملها معظم أيام السنة. يقول المهندس «أحد المغتربين دفع مليوني دولار على بناء قصره، وهو اليوم يقيم في الغرف السفلية المعدّة أصلاً للناطور، فهولا يستطيع مع زوجته الاعتناء بطوابق القصر الثلاثة، لأن أولاده بنوا منازلهم في أماكن أخرى، ولا يقصدون البلدة إلا لأيام». وينصح جميع الأغنياء بـ«بناء منازل صغيرة، من طبقة واحدة، والاعتناء بالحدائق الخارجية التي ثبت انها الأكثر حاجة واستخداماً».
يذكر أن أول قصر بني في شقرا عام 1964، بحيطان أسمنتية وسقف من أحجار الباطون (هوردي) كان للمرحوم عبد الهادي صالح، ومن وقتها بدأت قصور شقرا تتنامى، لتزداد بكثرة في الثمانينيات.
لكن لماذا يبني هؤلاء هذه القصور؟
عندما قرر عبدالله فرحات، بناء قصره الجديد، قبل أن تتراجع أحواله المادية، لم يكن يفكر سوى «ببناء بيت جميل يضاهي في جماله قصور أبناء بلدته». كان يعلم أنه لن يقيم فيه إلاّ لأيام قليلة كل عام، لكنه اليوم وبعدما أعاد حساب الكلفة المالية التي تكبدها على بنائه، اكتشف أن هذه الكلفة كانت ستتيح له الإقامة في أفخم فنادق لبنان طيلة أيام حياته الباقية، أو تؤمن العيش الرغيد لأولاده خلال سنوات طويلة.
رغبة ابناء القرى والبلدات، الزراعية سابقاً، في بناء القصور، تعود الى «مرارة عيش هؤلاء أيام الزراعة والفقر، عندما كانوا يسكنون في بيوت صغيرة، عبارة عن غرفة أو غرفتين، مع عائلاتهم الكبيرة» يقول المغترب علي غشام، ابن بلدة يارون الحدودية. يذكّر بأن «معظم المغتربين، من كبار السن اليوم، هاجروا ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب الحرمان أيضا». «كانوا ينظرون الى بيوت الإقطاعيين الكبيرة، ويحلمون ببناء أجمل منها، وهذا ما حصل. وأصبحت ظاهرة بناء القصور طريقة للتباهي بين الأغنياء، وحتى بين متوسطي الدخل، الذين دفع بعضهم الجزء الأكبر من أمواله لبناء القصور».
في المقابل، لم يعمد أحد من أصحاب هذه القصور الى بناء مصنع أو معمل، لتشغيل ما تبقى من المقيمين. وهذا ما يجعل أحلام هؤلاء مقتصرة على الهجرة.
حول دكان صغير في يارون، يتناوب على الجلوس على ثلاثة مقاعد خمسة شبان صغار، لا يتجاوز عمر أكبرهم 25 عاماً. أفكار وأحلام كثيرة تراودهم، تتعلق بالهجرة أو الوظيفة «الميؤوس من الحصول عليها»، «لا أمل في العمل هنا» يقول أحدهم بحسرة، «البلدة تزينها القصور الفخمة، لكنها تخلو من المعامل وفرص الانتاج، حتى ان أعمال البناء توقفت، وأصبحت الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة هي المطلوبة لإنجاز بعض الأعمال المتعلقة بورش البناء».