في عام 1928 لم يكن لظاهرة الرادود من مكان في الثقافة الشيعية اللبنانية. كان السيد محسن الأمين، في «رسالة التنزيه»، آنذاك، ينتقد ظواهر لها علاقة بالتطبير وإيذاء النفس، والطبل والزمر، حزناً على استشهاد الإمام الحسين. وظاهرة الرادود، في ظاهرها وفي باطنها، لا تحمل أبعاداً من تلك التي تحدث عنها الأمين في رسالته التنزيهية، التي أثارت جدلاً واسعاً في حينها، استمر إلى أيامنا هذه، مع اتفاق مرجعيات شيعية كثيرة مع روحية تلك الرسالة لاحقاً.
حتى إن الإمام الخميني ومن بعده الإمام الخامنئي، مرشدي الثورة الإسلامية الإيرانية، رفضا الطقوس العنفية من حز الرؤوس وجلد الأجساد بالسلاسل المعدنية للتعبير عن الحزن على الإمام الحسين، وكرها لأنصارهما أن يقوموا بها. بيد أن الشاب العشريني، ذا الشعر المسرح بعناية بالجل، المحب لسلطان الطرب، ومستبدله بحسين الأكرف في أيام عاشوراء العشرة، لا يحبذ هو الآخر هذه الطقوس. لا يحز رأسه، ولا يلطم بالسلاسل المعدنية على ظهره، ولا يشارك حتى في حلقات الندب التي تقام في الحسينيات. الأمر يقتصر عنده في عاشوراء على هذا الاستبدال الظرفي لسلطان الطرب بالرادود الأكرف. والأكرف، بالنسبة اليه «نجم» جديد في «سوق» الرادودين، بعد أفول نجم الرادود الشهير باسم كربلائي من سيارات الشباب في الضاحية الجنوبية، لأسباب قيل إنها سياسية.
ولهذا الأفول حكاية تروى. إذ ان كربلائي كان من أشهر الذين اعتلوا منابر حزب الله العاشورائية ليردد المراثي على الإمام الحسين، ويعلي من حماسة الشبان المشاركين في حلقات اللطم عليه. وهو كان يشارك في ليالي عاشوراء في مجمع سيد الشهداء في الضاحية، بحضور الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. لكن أمراً ما حدث، جعل الحزب يستغني عن «خدمات» الكربلائي، لمصلحة حسين الأكرف (النجم الجديد). وهذا الأمر يبقى رهين الاحتمالات والتأويلات، لكنه بلا شك لا يبتعد عن السياسة، التي يصر الكربلائي على الابتعاد عنها. بمعنى آخر، أُريد للكربلائي أن ينطق على المنابر بولاء سياسي لا يقتنع به، وحينما رفض ذلك، جرى اقصاؤه، لكنه بقي نجماً في العراق والبحرين والكويت، ولا يزال يزور لبنان ويشارك كرادود في مجالس خاصة في بعض القرى اللبنانية. أما السبب الثاني، الذي يقال إنه حال بين الكربلائي ومنابر حزب الله،
قرر حويلي يوماً ما أن يلبي دعوة غسان الرحباني إلى عمل فني وطني مشترك، فسجل أغنيتين وطنيتين

فهو موقفه من التطبير، ودفاعه عن هذه الظاهرة، ودعوته في أحد المجالس العاشورائية الخاصة إلى أن تشل يد من يفتي بتحريم التطبير، فضلاً عن مغالاته في التطرف (الخطابي) الشيعي، الذي لا يناسب الحزب في ظل الأوضاع المتوترة بين السنة والشيعة في لبنان. وهناك سبب ثالث يقال إنه زاد الطين بلة، هو عقيدة الكربلائي الشيرازية، لكن حزب الله كان يعلم منذ البداية بعقيدة الكربلائي، ومع ذلك لم يمانع من رفع شأنه بين الرادودين.
أمر مماثل تقريباً حدث ايضاً مع رادود آخر، أكثر شباباً من الكربلائي، يدعى أحمد حويلي. هذا الشاب كرم واعتلى منابر الحزب، ويقول إنه اجتمع بأمينه العام السيد حسن نصرالله الذي أحب صوته، وشارك في مسيرات عاشورائية ضخمة، وردد وراءه الآلاف لطمياته، وكان مرشحاً أن يكون من خلفاء الكربلائي، لولا أنه قرر يوماً ما أن يلبي دعوة غسان الرحباني إلى عمل فني وطني مشترك، فسجل أغنيتين وطنيتين مع الرحباني، كانتا بمثابة الضربة القاضية لمستقبله كرادود في كنف حزب الله. حويلي يقول إن فكرة الرادود، بمنطقها اللبناني، لم تظهر الا مؤخراً، وان الأمين العام للحزب غالباً ما أصر على دعم الرادودين اللبنانيين لإيجاد لغة مشتركة مع الجمهور اللبناني، من دون الحاجة إلى «استيراد» رادودين من الخارج. يبتسم وهو يقول بفخر: «كان السيد يحب كثيراً عملي الفني «أنا مذ غبت لم أنم» وكان يحب دائماً سماعه». مع أن الحزب ومناصريه الملتزمين، بحسب حويلي، يبدون ولاءً شديداً لرادود ايراني شهير يدعى عساكري، وعساكري هذا لا تجد أحداً من المنتسبين إلى حزب الله لا يعرفه، أو لا يسمعه. وينزعج الرادود الشاب من الطفرة المتطفلة على «المهنة» في السوق اللبنانية، وخاصةً من أولئك الذين يدمجون قصائد حزن على الحسين بموسيقى «الراب»، أو بأغنيات هابطة يسرقون موسيقاها ويفرغونها من مضمونها، ليضيفوا اليها مضموناً حسينياً أو مقاوماً.
هذه الظاهرة، بحسب أحمد، تشوه أصالة الفن الرادودي، وتفرغه من هويته الحسينية المستمدة من التراث العربي والإسلامي، فضلاً عن التراث الإيراني. وهو فن لا يجب أن تدخل إليه الآلات الموسيقية، لأنه يعتمد على الإيقاع الذي يصنعه اللطم بالأيدي على الصدور والأفخاذ. ويتحدث عن تجربة لافتة، قام بها بحرانيون، لدمج التراث الرادودي الإيراني مع العراقي، على خلفية هارموني صوتية، ويبدي اعجابه بهذه التجربة التي حاولت التجديد من دون التشويه. وقد قام حويلي، في محاولة منه لمواكبة العصر في مجال عمله، بانتاج عمل فني بعنوان «مرقدي»، يتحدث عن السيدة زينب، وقد عرضه بتقنية «أنيمايشن» وهو موجود على موقع «يوتيوب».
لماذا قرر حويلي التجربة مع غسان الرحباني في مجال الأغنية الوطنيّة؟ للشاب أسبابه، ومنها رغبته في التجربة وفي فتح آفاق طموحه، ومنها أيضا معرفته بأن مهنة الرادود «موسميّة»، وأن جمهوره يقتصر على طائفة واحدة دون غيرها. وهو يطمح إلى التوجه إنسانياً إلى جميع الطوائف والمِلل، ولهذا فهو يعمل الآن على الإعداد لمشروع غناء صوفي.
هل يتوقع من هذا العمل أن يصل إلى سيارة الشاب الشيعي الذي تحدثنا عنه في أول المقالة؟
بالتأكيد لا. فلا أحد يستطيع منافسة «سلطان الطرب» خارج فترة عاشوراء!