لا التباس في «مظلوميّة الحسين» عند الباحثين التاريخيين. برأي الدكتورة والباحثة رولا تلحقوق، هذا مدخل مناسب لعرض السيرة الحسينيّة، وخاصةً أن النقاش «مفتوح هنا»، وأنه «قد يكون نقاشاً حساساً». في الواقع، فضّل الإمام الحسين الموت، ليفدي الجميع. وبقراءة نقديّة، يمكن الخلوص إلى أن التجربة يجب ألا تعاش كمظلوميّة «بل كفعل فداء»، وهذا فعل «يستوجب إرادة وسلطة وتمرينا».
والقول إنه يحتاج إلى تمرين، أي إنه يجب أن يبقي حق الإسقاط على أي زمنٍ قائماً، وبكلمات أخرى، يمكن القول «هناك يزيد في كل عصر». في بحثها، عن «المجتمع المدني والجماعة الدينية في المجتمع اللبناني المعاصر، دراسة انتروبولوجية لجماعتين طائفيتين محليتين شيعية ومارونية في الاطار المدني»، خلصت تلحوق إلى ضرورة الفصل بين الواقعة التاريخيّة والخطبة السياسيّة. وبهذا، يكون «خلاص الشيعة»، أي نزع الصبغة السياسيّة عن الحادثة، فالنزعة السياسيّة «ستدفع إلى جو انتقامي»، بينما السيرة في جوهرها متلعقة بالـ«فداء».
إلى ذلك، أعدت تلحوق دراسة أخرى بعنوان: «مقارنة بين الشيعة والموارنة: انتروبولوجيا دينية، شيعة حارة حريك وموارنة عين الرمانة». قضت ست سنوات تبحث، فشاركت الموارنة صلواتهم، وحضرت مجالس الشيعة، حضرت المجالس التي تقام في مسجد الحسنين. لم تكتفِ بذلك، بل شاركت في مجالس فردية، وفي المسيرات الحسينيّة، وحضرت احياء حزب الله للذكرى في قاعة الجنان. خلصت إلى التأكد من أن الإنسان «كائن ديني». «اللاوعي يرفض الموت، اختبار الموت»، والطفولة مؤثرة كثيراً لجهة التلقين التي يلقاه الطفل، وعلى هذه الأساس يبقى الشعور بعاشوراء حاضراً في وجدان الشيعة. تشرح هنا سلسلة تداعيات لهذا الشعور، يمكن تفسيرها، كاللون الأسود، أي كاستمرار لعيش «المظلومية»، إضافة إلى «الشعور بالذنب»، حين يقال «يا ليتنا كنا معكم». ومن ناحية أنتروبولوجيّة صرفة، عاشوراء واستمرارها تفسر بدورها الحاجة إلى وجود «الإمام المهدي»، لجهة «استمرار المظلوميّة»، وضرورة «ظهور المخلّص»، وخاصةً أن الصفات التي يحاط بها المهدي هي صفات «طوباوية»، فالجميع ظّلم عبر التاريخ. وعلى سيرة الجميع، تلفت تلحوق إلى وجود مجموعة «مغالطات» تاريخيّة، فمعظم الشيعة لا يعرفون سبب طبخ «الهريسة» في عاشوراء، إذ لا ذكر للقمح في القرآن، بينما المسيح هو الذي جعل نفسه قمحاً، وهذا له رمزيّة كبيرة عند القديسين المسيحيين.
في المحصلة، كل «قاتلٍ للحق يساوي يزيد»، القصة ما زالت صالحة وستبقى كذلك برأي تلحوق. غير أنها تميّز بين ثلاثة توجهات في الطائفة الشيعية: السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وولاية الفقيه. تحترم تلحوق السيد حسن نصر الله كثيراً، رغم موقفها الداعي إلى فصل السياسي عن التاريخي، وتقول إنه «رجل صادق». وعموماً، «مجتمع حزب الله فيه تعددية التوجهات الثلاثة»، وهو يدعو إلى «رفض التطبير»، وتوجيه الرصاص إلى إسرائيل. ولا تجد تلحوق ضيراً من توجيه بعض النقد، حين تؤكد أن التباكي ليس شعوراً دينياً إنما ظاهرة اختارها الناس، وهذا شائع في جميع الأديان. في مسيرة درب الآلام ينزحون حفاة، وهذا من الفصل الثالث في سِفر الخروج بالعهد القديم. وهذه أشياء «لا إراديّة»، تداخلت مع الشعور الديني على نحوٍ جعل فصلها عنه صعباً.




البحث عن المقام المقدّس

ترى الباحثة رولا تلحوق أن حب «أهل البيت» لله كان خالصاً، وتمدح نضالهم ضدّ السلطة. ورغم ذلك، تحاول تفسير التشابك بين السياسة والتاريخ، إذ تشير إلى أن «الموت ظلماً هو حدث صعب ويورث العداوة». غير أنها تلفت إلى دور الإمام علي بن أبي طالب في «رفع الفكر»، حيث يجب على أتباعه اليوم أن يتبعوا منهجه في الحكم السياسي. يحتاج هذا إلى «نقلة نوعيّة»، وتفكيك العلاقة بين المقدّس والمدنّس. والحاضر كما الماضي، يشهد وجود قوى سياسيّة وأخرى عسكريّة، تحكمها هذه المعطيات، على قاعدة «أنا موجود إذاً أنا هنا»، لكن يجب الفصل بين الحاضر والتاريخ على مستوى القراءة النقديّة، لكي «لا يغرق الباحث بين زمنين». لا يفوتها التشديد على «تفهمها» لمشاعر الشيعة كجماعة، غير أن التوظيف الآني لواقعة عاشوراء، يجب أن يبقى في «مقامه المقدّس».