«لا أصدّق أن الذي أراه موجود في لبنان!»، تعليق يتركه أصدقاء نورا على أغلب الصور التي تنشرها على صفحتها في موقع «فايسبوك» بعد عودتها من رحلاتها في الطبيعة. انضمّت نورا إلى ناد للسياحة البيئية منذ ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين تكتشف بلدة لبنانية تلو الأخرى. لا تستغرب هذا التعليق، «فأنا نفسي لم أكن أصدق ما كنت أراه بأم عيني». تلفت إلى أن «الجميع يتحدّث عن مناطق لبنانية مثل صيدا وصور وطرابلس وبعلبك وزعرتا، لكن البلدات والقرى الصغيرة ذات الأسماء الغريبة المحيطة بهذه المدن، كحردين وحمطورة وبساتين العصي وكفرحلدا وغيرها أجمل وأغنى بكثير».
لا يبحث هواة هذا النوع من السياحة عن الجمال فحسب. «إنها الطريقة الأفضل للهرب من الضغط الذي تسببه بيروت»، يقول ميشال حاملاً عدّته الخاصة بالسير في الجبال «قبعتي وعصاي، الأولى للحماية من الشمس والثانية لتفادي الوقوع عند تسلق الدروب الوعرة». تعدّ بيروت العاصمة مركزاً لجميع أنواع الضغوطات بالنسبة الى ميشال، والابتعاد منها ولو لبضعة كيلومترات ينقلك الى جوّ آخر، «كأنك في بلد أو كوكب آخر. لو أنني أقطن في هذه القرى مثلاً، لتلقيت خبر انفجار ما في بيروت كما أتلقى خبر الانفجار في العراق». فالانعزال بين الوديان والاشجار ولو ليوم واحد في الأسبوع يبعث في نفسه الطمأنينة والراحة النفسية، «اكتشفت أن البلد ليس مهزوزاً دائماً كما تروّج لك نشرات الأخبار».

متعة للأجانب

توافقه جولييت الرأي. هي فرنسية وتعيش في الشرق الأوسط منذ عشر سنوات «وفي بيروت منذ خمس سنوات، ولا أجدها مغرية بشكل كاف. وفي كل مرّة تزورني عائلتي أو أصدقائي لا أقلق بشأن المشوار، فهو دائماً جاهز وعبارة عن زيارة لبلدات لبنانية تقع في قلب الجبال». لا تستطيع جولييت الوصول الى هذه البلدات وحدها ولا حتى بالسيارة، وتؤمن لها هذه المجموعات ما تحتاجه، أي المواصلات والدليل والصحبة. «تعرّفنا الى الكثير من اللبنانيين وحتى الأجانب في هذه الرحلات»، تعقّب كريستوفر من الجنسية الايسلندية.
يعدّ الأجانب أوّل
من روّج لهذه السياحة في لبنان

«أعمل في البحرين، وأتيت الى لبنان لمدة خمسة أيام لأشارك في هذه الرحلات الاستكشافية بعد مشاهدتي للصور التي تنشرها جولييت على صفحتها، أتعجب في كل مرة أرى فيها ديراً أو كنيسة او أثاراً تعود الى آلاف السنين»، تقول. فشعبها، أي الايسلنديون، وجد عام ٨٠٠ بعد الميلاد أما وجود حجر يعود تاريخه أكثر من الف سنة فأمر أقرب الى الخيال بالنسبة اليها.

أحلى من السفر

بدورها، كانت سارة تعدّ المشي بمثابة «القصاص». أما في رحلات «المشي في الطبيعة»، يصبح المشي متعة، إذ يرافقه اكتشاف أراضي ومنابع مياه جديدة لم يطأها إلا القلة القليلة. كذلك فإن هذه الهواية ليست مكلفة مادياً، اذ لا تتعدى كلفتها الثلاثين دولاراً، وتعود بالنفع على المستوى الشخصي والنفسي أكثر من ارتياد مطعم او سوق تجارية، بحسب سارة.
«كل مرة أدخل فيها الى بلدة تحمل اسماً لم أسمع به من قبل، أشعر أنني زرت بلداً جديداً»، يقول ابراهيم الذي يصف نفسه بـ«المتيّم بالسفر». بعدما ألمّت به ضائقة مالية، اكتشف أن السفر لا يعني بالضرورة قطع تذكرة والصعود الى الطائرة، «إذ على بعد عشرات الكيلومترات من منزلي، ثمة بلدان يقطنها لبنانيون يتحدثون بلكنة مختلفة ويلبسون أزياء مختلفة ويتبعون تقاليداً مختلفة، وها أنا اتعرف الى ثقافات لم أعرفها مسبقاً وما زلت في بلد واحد!». ازداد احترام ابراهيم «للآخر اللبناني»، بحسب تعبيره، «عوضاً عن أن نقطع مسافات من قارة الى اخرى لنتعرف الى ثقافة جديدة قد تكون نقيضة لما نؤمن به ومع ذلك نحترمها، وبسبب الحساسيات اللبنانية تجدنا نقع في فخ قلة الاحترام تجاه لبناني آخر بسبب اعتناقه ثقافة اخرى، علماً اننا مصادر غنى لبعضنا البعض».
تأخذ زينب بعداً دينياً بعض الشيء لرحلاتها في الطبيعة. فهي التي عرّفت عن نفسها «المحِبّة لمخلوقات الله» باتت تشعر بالانزعاج إذا ما سمعت خبراً عن قطع الأشجار أو حرق الأحراش. «قبل انخراطي في السياحة البيئية، كنت من الأشخاص الذين يستخفون بالمدافعين عن البيئة والطبيعة على اعتبار أن ثمة قضايا أهم لندافع عنها»، تقول زينب. لكن بعد رحلة واحدة في بلدة المختارة، تبدلت آراؤها، وباتت تساوي المشوّهين للطبيعة بالمجرمين الذين يقتلون المخلوقات الحية او الذين يدمرون أية مقدّسات من حجر، «أشعر بأني الى الله أقرب كلما تأملت جمال ما أراه». تحرص زينب على احضار ولديها الى هذه الرحلات «لأعرّفهما على طبيعة بلدهما بعيداً من غرفهما والهواتف الخلوية، وعلى أبناء بلدهما ولأصنع معهما ذكريات جميلة ومريحة!».

إلّا الجهل

تتنوّع نشاطات السياحة البيئية بين السير في الطبيعة من جبال ووديان وبساتين، إلى السير على الثلج والتخييم ورياضة التجديف، الا أن هذه النشاطات البيئية لا تندرج تحت مسمى «السياحة البيئية» إذا خلت من تعريف المشاركين على المعالم التاريخية والدينية والأثرية والمجتمع المحلي للمنطقة التي يزورونها. «من دون هذه المعرفة الشاملة، يصبح النشاط مجرّد رياضة تمكن ممارستها داخل ناد مغلق»، يقول مارك عون، مؤسس نادي vamos todos للسياحة البيئية. «التعرف على آثار المنطقة وتشجيع مجتمعها المحلي، هو ما تقوم عليه هذه السياحة، ولبنان غني بالمنتوجات التقليدية المحلية الصنع ولا يزال بعض السكّان يعتمدون الوسائل التقليدية لصنعه وثمة أديرة ومقامات دينية تعود إلى آلاف السنين مبنية في الجبال، ومن المهم الإضاءة على هذه الأماكن وزيارتها خلال رحلاتنا».
يحرص مارك مع شركائه على تزويد الزوّار بالمعلومات التاريخية للمنطقة من خلال الاستعانة بسكان البلدة أنفسهم. «هذا ما يجذب اللبنانيين والأجانب على حد سواء». كما يلحظ أيضاً طغيان أعداد الأجانب على اللبنانيين في هذه الرحلات، ويوضح أن «الأجانب كانوا أول من روّج لهذه السياحة في لبنان وكانوا يطلبون منّا تعريفهم إلى مأكولاتنا وبيوتنا التقليدية بعيداً من السياحة اللبنانية المعتادة. حتى وزارة السياحة اللبنانية لم تتضمن دائرة للسياحة البيئية الا أخيراً ما ساهم بعدم انتشارها في لبنان». لكن «كانت هناك نواد قليلة في السابق تهتم بهذا النوع من الرحلات وانبثقنا من كنفها، والآن بفضل الاعلام والانترنت استطعنا أن نحدث ثورة في هذا القطاع إلى جانب نواد أخرى، ما زلنا في بداية هذه الثورة إذ لا يزال لبنانيون كثر يجهلون قيمة ومدى غنى هذه السياحة».
يشدّد مارك، الذي يعمل في هذا المجال منذ ١٤ عاماً، أن التنسيق مع البلديات والجيش اللبناني وفعاليات البلدة التي ينوون المسير بين جبالها، أمر ضروري جداً. إذ سجّلت حوادث متفرقة لدى بعض المجموعات ضاع أفرادها في الغابات والثلوج وعرضوا سلامة المشاركين للخطر عند تنظيمهم لنشاط كهذا من دون تبليغ أية جهة مسؤولة. ويحذّر من المشاركة مع اي مجموعة من دون التأكد من ترخيصها من قبل الدولة، لأن هذا قد يسبب وقوع الكثير من المشاكل. ويلفت إلى أن «أهم العوامل المؤثرة في السياحة البيئية هي الطقس والوضع الأمني وخصوصيات كل بلدة، فلا يمكننا الذهاب الى القرنة السوداء مثلاً في شهر تشرين، ولا يمكننا الذهاب الى عكار في ظل وضع أمني متوتر، فلكل منطقة طقسها ووضعها الأمني»، يقول مارك، «ومع كثرة المناطق اللبنانية، ثمة بديل دائماً اذ ما طرأ حدث لم يكن بالحسبان».