الرياح الباردة الآتية من إقليم التفاح عبر الوادي إلى كتف دير الزهراني (قضاء النبطية)، تشجع على الاحتماء بدفء معمل الشامي لصناعة الصوبيات. وحدها المئات من بيوت النار والمواقد والمداخن المرصوفة في الزوايا، تبدّد البرد وتحيي مشهد تحلّق الأسرة حول الصوبيا في فصل الشتاء. في المعمل المطلّ على جبل صافي وثلوج جبل الشيخ من خلفه، يتربّع العبد الشامي على عرين هذا القطاع (وفق التقنيات الحديثة) على صعيد أقضية الجنوب. كالكثيرين، كان قبل عقود يقصد مرجعيون وحاصبيا لشراء الصوبيا لمنزله. تلك المحال كانت تشتريها من الورش في قضاء راشيا الوادي التي لا تزال تشتهر بصناعتها.

الاعتداءات الإسرائيلية على المنطقة الحدودية في السبعينيات منعته من الانتقال إليها. انقطع السبيل إلى تلبية حاجته من الدفء، ما دفعه إلى اقتحام هذا القطاع من دون أي معلومة مسبقة عنه.
أستاذ المدرسة، ثم موزّع الأدوية على الصيدليات، قرر فجأة البدء بإنشاء ورشة في الطبقة الأرضية من منزله في جرجوع وتصنيع مصدر التدفئة له ولأهل المنطقة. استعان بداية بـ«معلم» أرمني، علّمه على تقنيات تلحيم الحديد وتركيبه. مع عمال وأقارب له تجمعوا من قطاعات مختلفة تماماً، تمرنوا طويلاً «حتى ظبطت معهم أول صوبيا صالحة للاستخدام». هدم البيت والورشة في عام 1992 جراء القصف الإسرائيلي، أجبره على الانتقال للعيش في حبوش ثم في دير الزهراني واستحداث ورشة جديدة. على نحو تدريجي، تمدّدت مساحة الورشة حتى صارت معملاً حالياً يصنع الصوبيات والقساطل وعربات نقل الإسمنت وقناني المياه الساخنة.
في السنوات الماضية، استغنى كثيرون عن الصوبيا لأنها صارت «موضة قديمة». ميسورو الحال استبدلوها بـ«الشومينيه» أو «الشوفاج»، فيما اكتفى آخرون باستبدالها بالمدافئ التي تعمل على الغاز والكهرباء. الشامي تصدى لإلغاء الصوبيا. استحدث «موديلات» جديدة وصغيرة وعملية، ولا سيما بعدما بات الحطب يشرى من التجار ولم يعد الأهالي يجمعون حاجتهم بأنفسهم من الحقول بعد غلاء المازوت والحطب. طوّر الصوبيا التي تعمل على الغاز، ولتلبية لوازم السهرات العائلية الشتوية، طوّر الصوبيا مع فرن داخلي لتسخين الطعام وشوي الكستناء والبطاطا.. ولكل نوع منها، أفرد مجموعة متنوعة من الإكسسوارات التي تثقل هويتها التراثية البسيطة. هكذا صارت الصوبيا 3 بواحد، في سبيل المحافظة على مكانة لها في البيت الجبلي. أما من يفضل «الشومينيه» فقد طوّر في القطع المستوردة من تركيا، باستحداث مراوح وعازل، يحمي الحائط، وباب سميك لحماية بيت النار.
يطمئن الشامي إلى أن لا شيء يزاحم الصوبيا. فهي لا توفر الدفء الذي يعم أنحاء البيت فحسب، بل تشدّ أواصر الأسرة حولها. كثير من زبائنه يبحثون عن «الكنكنة» التي بعثرتها مشاغل الحياة وتوافر مدفأة لكل فرد من الأسرة، جعلته ينعزل في غرفته.