جنان جمعاوي مشحور


سُئل شقيقي عندما كان صغيراً، ذلك السؤال المعهود: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟
أجاب: أريد أن أصبح مثل أبي (نعم نقول أبي وليس بابا)، حيثما أمرّ يبادرني الناس بالقول: «مرحباً حج!» وهذا أمر لا يحدث إلا في المدن الدافئة، وأقصد هنا في طرابلس!

■ ■ ■



كنت أسكن في بيروت، بداعي العلم ثم العمل. وكان أولاد شقيقاتي، يطالبن أمهاتهن: «خذونا إلى لبنان لنزور جنان...». وكأن طرابلس ليست جزءاً من هذا البلد «الجاحد». لعلّه العنق الطويل الممل الذي يشطرها عن بقية الجسد اللبناني، ما إن تفرغ من شكا، على الأرجح السبب «جغرافي»، ربما يكون هذا هو السبب فعلاً في شعور الكثيرين بأن طرابلس متروكة لوحدها هناك في الشمال.

■ ■ ■



كان ذلك مساء يوم محموم في مسلسل المعارك التي لا تنتهي في طرابلس. وقف والدي عند عتبة غرفة المعيشة ممسكاً بيده منشفة، مطالباً أمي بأن تغيّر المحطة في التلفزيون إلى محطة إخبارية (إنشائية لن أبوح باسمها). أجابته بأنهم لم يتحدثوا عما يجري في طرابلس بعد. بلهفة من يمسك بيده منشفة استعداداً لإنجاز شيء آخر، ردّد مطالباً: «مبلا رح يحكوا عن طرابلس بعد الزبالة!». يبدو أن القناة كانت تعرض تقريراً عن النفايات... ربما في موزمبيق!

■ ■ ■



كانت ليلة عنيفة. اضطرت أختي إلى المبيت مع أولادها في منزل العائلة. فمنزلها يقع على سفح التلة الموازية للنهر، أي بمواجهة مباشرة مع منطقة القبة، التي تنتهي بجبل محسن، والتي بدورها تشرف (نوعاً ما) على منطقة التبانة. المهم، كان ابنها البكر، وأظن أن عمره كان 7 أو 8 سنوات، ضجراً لتغيبه القسري عن المدرسة لعشرة أيام، فسأل أمه: «ماما، ليش ما بيخصصوا كواكب خاصة ليتقاتلوا فيها، في كتير كواكب فاضية. في المريخ... وفي الزهرة». يمكنني أن أضيف إلى مخيلة الصغير: هناك أيضاً جهنم!

■ ■ ■




لم أحب القهوة في حياتي ولكن طرطقة فنجاني الشفة في يد بائع القهوة في الساحة يغريني
هي شقيقتي نفسها، التي بكت عندما نطقت ابنتها الصغرى أولى كلماتها. لم تقل ماما أو بابا أو أي شيء آخر... وإنما قالت: «طع طع...» ولهذا بكت أختي!

■ ■ ■



لملمت أختي أولادها على عجل. هرعت إلى منزل العائلة في الجهة المقابلة من الشارع. طرقت الباب بعصبيّة. استغرب أبي قدومها، بعدما كانت قد أصرّت على التزام بيتها، نظراً إلى بُعد المعارك. فشرَحت: «في رصاصة طايشة وصلت على بيتي، الحمد الله اللي جيل هالايام مصروع وطايش... بس شو بعرّفني انا إذا في بيناتن شي رصاصة... دكتورة!».

■ ■ ■



طوال 19 سنة عشتها في بيروت «مغتربة» عن طرابلس، لم أتعرف الى أحدٍ في بيروت، ووجدته استثنائياً (سواء أحببته أم لا)، وإلا وصادف أنه كان من طرابلس. لا أقول ذلك غروراً، بل لديّ تفسير اجتماعي ــ منطقي لهذه الظاهرة. طرابلس مدينة صغيرة دافئة، الأعمال فيها «على باب الله»، والارتقاء المهني فيها بطيء إن لم يكن معدوماً. لهذا يصبح لزاماً على الطموحين من أبنائها بذل جهد مضاعف لصقل شخصياتهم وثقافتهم (الثقافة الحقيقيّة لا على طرازها الشوفيني) وشق طريقهم مهنيّاً واجتماعيّاً. وهكذا، يلمعون بين مجموعة سوادها الأعظم... عاديّ.

■ ■ ■



أحب المدن التي تملك قلباً. هذا القلب الممتد من سوق السمك عند عتبة نزلة الرفاعية، وصولاً إلى مفترق سوق الكندرجيّة والسوق المؤدية إلى سوق النحاسين، وسوق حراج في الجهة المقابلة. هذا القلب الذي ينبض في محيط سوق الذهب وخان الصابون، ويمتد إلى السوق العريض، فساحة النجمة وصولاً إلى ساحة التل. هذا قلب طرابلس. الآن، هل بإمكان أحدكم أن يقول لي أي جزء من بيروت (مثلاً) هو قلبها؟

■ ■ ■



لماذا أحب طرابلس إلى هذا الحد؟ لأنني أعشق المدن غير المتوازية الارتفاعات. أحب المدن التي تنساب على سلالم لتصل إلى قلبها. أحب المدن حيث الناس يكبرون وتحفر السنون في وجوههم أخاديد. أحب المدن التي تخلص لطقوسها. أحب المدن التي تستيقظ باكراً. أحب المدن التي تسمع فيها صوت الأذان صافياً رقيقاً. أحب المدن التي يضحك ناسها على أنفسهم، ويخشون «التنمير» على الآخرين. أحب المدن حيث عمال النظافة هم أبناؤها وأهلها. أحب المدن التي يهب الناس فيها إلى مساعدتك قبل أن تطلب. أحب طرابلس لأنني لم أُسأل يوماً فيها عن ديني. أحب طرابلس لأن أهلها طيبون وفقراء... ومع ذلك يكثرون من حمد الله!