ساحل العاج | فرغ القارئ من تلاوة المجلس الحسيني في حسينية يوسف حيدر في منطقة أدجمي في العاصمة العاجية، أبيدجان. نهض المستمعون. منهم من غادر سريعاً ومنهم من انصرف ليتبادل السلام مع الآخرين. فالمجالس العاشورائية والوفاة أكثر ما يجمع اللبنانيين في ساحل العاج. «شو عم تعملي هون؟»، قالت سيدة لأخرى كانت جارتها في السكن قبل أن تغادر المنطقة للإقامة في كوكودي.
سبب دهشتها أن أدجمي، منطقة شعبية باتت حكراً على ذوي الدخل المحدود وما دون. زحمتها وطرقاتها الموحلة وأبنيتها القديمة وروائح الصرف الصحي المختلطة مع روائح أسواق السمك والدجاج والبهارات والخضر ووقود السيارات قديمة الطراز، تمنع اللبنانيين «المرتاحين» من أن يقصدوها. في المقابل، لا تزال هناك عائلات تعيش وتعمل، حيث يتجاورون جنباً إلى جنب مع المواطنين العاجيين وأقرانهم المهاجرين من الدول الأفريقية. علماً بأن أدجمي الواقعة في وسط العاصمة، كانت العصب التجاري الأول للبنانيين منذ الخمسينيات حتى التسعينيات. معظم من وصل منهم، كان يتوجه مباشرة للبحث عن مسكن وباب رزق له. منهم من ربح من تجارته فغادرها إلى مناطق راقية ومنهم من لم يتطور.
يقع محل إيمان سويدان في سوق الأقمشة في أدجمي. في الطريق إليها، لا نرى سوى أفارقة. حتى في المحل، عمالها وزبائنها أفارقة أيضاً. بابتسامة واسعة لا تخفي هم السنين، تقول إن أدجمي بالنسبة للبنانيين «أم الفقير».
كثيرون لا يتقبلون العودة خاليي الوفاض بعد سنوات الغربة


قد تحوي شقة واحدة 20 شاباً ممن وصلوا في السنوات الأخيرة
أسعار إيجارات المحال والمنازل والمنتجات رخيصة بالمقارنة مع مناطق أخرى. توضح بأن معظم اللبنانيين في البداية، افتتحوا محالاً لبيع الأقمشة والأحذية والمحاصيل الزراعية قبل أن يخترقوا مختلف المجالات. عام 1950، وصل جدها من منطقة صور. نشأ أولاده وتزوجوا وأنجبوا. إيمان التي ولدت قبل أربعين عاماً، تحتفظ في ذاكرتها بمشاهد نظيفة وآمنة لنشأتها في أدجمي التي كانت ضيعة توحد اللبنانيين الذين انحدروا من بلدات جنوبية لا سيما من منطقة صور. الأحداث الأمنية في نهاية التسعينيات وازدحام المهاجرين، دفع بمن «صار معهم مصاري» إلى الانتقال على نحو تدريجي، بحسب إيمان. حالياً، لم تصمد سوى أربع عائلات تعيش في قلب السوق منها إيمان ووالدتها. إمكانياتها المادية لا تمكنها من الانتقال، برغم حاجتها الماسة لتأمين بيئة نظيفة وآمنة لبناتها بين اللبنانيين. منال، جارتها في السكن والعمل. تعاون زوجها على إدارة محل لبيع الخرضوات ولوازم الخياطة. عندما حضرت عروساً قبل 17 عاماً من لبنان، حلت في أدجمي ولا تزال. أنجبت وكبر أولادها ولا تزال مع زوجها تؤمن قوت اليوم. تشكو لأنها لم تستطع ادخار المال. «ما ننتجه نصرفه، ما يجعلنا لا نستطيع التفكير بالعودة إلى لبنان نهائياً أو حتى في العطل الصيفية» تقول. المرة الأخيرة التي زارت فيها مدينتها صور، كانت إثر انقلاب عام 2011 عندما تم إجلاء اللبنانيين. مكثت حينها أربعة أشهر، حاول زوجها خلالها إيجاد فرصة عمل مناسبة، من دون جدوى.
ليس جميع من غادر أدجمي إلى كوكودي أو ماركوري أو دي بلاتوه أو زون 4 حيث ترتفع أسعار الإيجارات. كثير منهم استبدلها بكوماسي أو تريشفيل اللتين تعدان أفضل من أدجمي بدرجة واحدة. فيهما يتزاحم اللبنانيون مع المهاجرين المغاربة والأفارقة. تتجاور منازلهم ومحالهم وسط ضجيج وتلوث يبدأ منذ السادسة صباحاً ويهدأ عند العاشرة ليلاً. أفران ومحال حلوى وألبسة ومتاجر وورش صناعية وصالون تزيين... في كوماسي يتوحد المسكن والعمل أحياناً. بعض أصحاب المعامل اللبنانيين، استحدثوا منامة لعمالهم اللبنانيين وغيرهم ملحقة بالمعمل. قد تحوي شقة واحدة 20 شاباً لبنانياً ممن وصلوا في السنوات الأخيرة منقادين خلف وهم الربح الوافر والسريع.
في السفارة اللبنانية، تشكل النساء معظم طاقمها الوظيفي. سبع موظفات من أصل ثمانية. والسبب أن الأجور متدنية لا تناسب رب العائلة. أولئك، يستفدن من أجورهن لدعم أزواجهن. لكن الجهد المشترك لا يكفي أحياناً. بعضهن واجهن أخيراً خطر الصرف من منازلهن بسبب أزمة ارتفاع أسعار الإيجارات. منهن من وجدت شققاً بديلة، ومنهن من تصارع بين ضعف إمكانياتها لاستئجار مسكن مناسب لأولادها وبين خطر العودة للعيش في المناطق الشعبية.
في حديث لـ«الأخبار»، قسّم إمام الجالية اللبنانية الشيخ عدنان زلغوط، خريطة اللبنانيين إلى 60 في المئة من العائلات المستورة و30 في المئة من الطبقة المتوسطة وما فوق و10 في المئة من الأغنياء. في المدرسة اللبنانية التابعة لبعثة المجلس الشيعي الأعلى، هناك 15 في المئة من أولياء الأمور لا يستطيعون دفع الأقساط المدرسية، كما لا تستطيع تدبر أحوالها. ويلفت إلى أن كثيراً منهم لا يملك ثمن تذاكر السفر لزيارة لبنان. يرعى زلغوط صندوق مساعدات يدعمه بعض المتمولين لرعاية تلك العائلات. لكن لماذا طار الحلم الأفريقي بالمال الوفير؟ يوضح زلغوط بأن ازدياد عدد المغتربين والمنافسة بين بعضهم البعض من جهة، وبينهم وبين المواطنين واعتماد النظام الاقتصادي الحر، أدى إلى ازدياد الأسعار لا سيما العقارات. فيما هنالك عائلات ولدت في ساحل العاج ولم يترك لها ذووها مصدر عيش مستدام، فانهارت أوضاعهم الاقتصادية. فلماذ لا يعود «المستورون» إلى لبنان؟ إنهم «مستورون» بالغربة والبعد عن أهلهم وأقاربهم في لبنان، يقول. كثيرون لا يتقبلون العودة خاليي الوفاض بعد سنوات الغربة، فيما لم يعد آخرون قادرين على التأقلم في لبنان اجتماعياً واقتصادياً. مصاريف الحياة أرخص في ساحل العاج، لا سيما المأكل والمشرب.
في المقابل، يسعى زلغوط وفعاليات الجالية إلى تسفير عدد من الشبان الذين وفدوا أخيراً. هؤلاء دخلوا بتأشيرة زيارة أملاً بالعثور على وظيفة أو افتتاح مشروع خاص، لكنهم لم يفلحوا. بعضهم، انزلق إلى فساد أخلاقي واجتماعي. تشكو الفعاليات من الإساءة التي يلحقها هؤلاء بتاريخ الجالية وعلاقاتها بالمجتمع المحلي والسلطات. عدد من الشبان قيد التوقيف لتورطهم بقضايا نصب واحتيال وسرقة ومخدرات...