صنعاء | حصل الأمر كما يحدث في سير الأفلام، لكنّ الحياة ليست سينما. الحياة من لحم ودم وفوضى ودماء ورصاص وأرواح... وملابس داخلية لم تعد تجد مكانها في واجهات المحال التجارية. حصل الأمر فجأة، حيث نجحت جماعة صغيرة تحيط بالمدينة في هزيمة جيش كبير من الأعداء ـ في اعتبارها ـ لكنه، مع ذلك هو الجيش الرسمي الذي من مهماته حماية تلك المدينة وأهلها.
عندما أعلن الزعيم الحوثي الشاب عبد الملك الحوثي ثورته على الفساد وقرر محاصرة صنعاء من كل مداخلها وإقامة ساحات اعتصام، كانت مطالبه واضحة: تراجع الدولة عن قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية وإسقاط الحكومة الفاسدة. لكن ظهر أن هذا الأمر لم يكن غير الجانب الظاهر من الصورة. لقد تراجعت السلطة عن قرارها وأعلن رئيس الحكومة استقالته، لكن الحوثي لم يأبه، هاتفاً: لا بد من صنعاء ولو طال الحصار والاعتصامات.
هكذا، دارت عجلة الفيلم بسرعة. انطلقت الرصاصة الأولى وبدأ اجتياح صنعاء. تراجع الجيش أو تلاشى. توالت الأحداث ولم يعد مفهوماً ما يجري حقيقة على الأرض. ساعات فقط وفُتحت صفحة جديدة في تاريخ المدينة. انهارت الدولة أو الشكل البسيط لها. لم يكن الخبر العاجل قادراً على اللحاق بأنفاسه. ما إن يأتي خبر عاجل على الشاشات حتّى يأتي غيره. انهارت المدينة وقيل بأن أوامر صدرت بترك صنعاء لمصيرها، فلم يجد الحوثيون من يواجهون غيرنا.
هرب الجنود وخرجت الدّبابات التي كانت معهم ويقودها حوثيون. انتشر مسلّحو الزعيم عبد الملك في شوارع صنعاء وظهروا مندهشين للنقطة التي وصلوها، كما لو أنها جاءت مصادفة بلا تخطيط مسبق. وقف فتى مسلّح منهم لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره وقال لنا: «نحن لم نخطط لهذا، هو نصر من عند الله وهذه الغنائم حصيلتنا»، وهو يسير باتجاه دبابة تقف أمام مبنى النائب العام قبل سفرها القريب إلى مدينة صعدة.
لا بد من معركة إذاً. لم يكن كل هذا الحصار من أجل لا شيء. ظهرت صنعاء مكشوفة ومُسيطر عليها من قبل عناصر مسلّحة بعضهم يرى مدينة للمرة الأولى في حياته ولم يتم إعدادهم للتعامل معها ومع مكوناتها. في حين بقي في القلب شيء من الانتقام: الدخول إلى غرف نوم بعض قادة الإخوان المسلمين. واحد منهم كان قد قال تصريحاً غير مسبوق في حياة اليمنيين عندما هدّد بالدخول إلى غرفة نوم علي عبد الله صالح إبان انتفاضة الربيع اليمني. هذا ما كشف الستر عن عناصر تابعة للرئيس السابق وانضمت لجموع الفقراء التي سارت خلف عبد الملك الحوثي في طريق إسقاط الحكومة. لكن، تبقى هذه أقاويل في حين تبقى عملية اقتحام غرف النوم تلك والتقاط الصور التذكارية بداخلها حقيقة مؤكدة. منزل الناشطة الإخوانية توكل كرمان وصاحبة نوبل للسلام كان واحداً من تلك المنازل التي جرى اقتحامها. في العرف اليمني يُسمّى هذا عيباً أسود لا يمكن غفرانه.
وبعد غرف النوم، بدأت مرحلة أخرى: إسقاط الملابس الداخلية من على واجهات المحال التجارية. كتب عبد الكريم الخيواني على صفحته على فايسبوك، وهو أحد الناشطين المدنيين التابعين للحوثي، بأن هذه الملابس التي قد يرى البعض مسألة عرضها شيئاً عادياً هي عند البعض الآخر غير ذلك. هو يبّرر الفعل، حرصاً على مشاعر الحوثيين. كأنهم لا يقدرون على المقاومة في مواجهة ذلك الإغراء الظاهر على واجهة المحال. لم يُعرف سابقاً أن إشكالية حدثت بسبب عرض تلك الملابس «السكسي». لم نسمع عن مراهق وقف أمام واجهة إحدى المحال في صنعاء وقد أُصيب بحالة هيجان بسببها فذهب لممارسة عادته السريّة أمام الناس. كُنّا نسمع القصص التي وصلتنا من المناطق التي وقعت تحت احتلال داعش، فنضحك مستبعدين حصولها هنا. لم نكن نعلم أن التاريخ يكرر نفسه بطريقة قادرة على أكل آلة الزمان وتبديل المكان بسرعة قياسية.
لكن ليس هذا فقط. هناك خطوة أخرى متبقية في طريق الحوثيين الطويل: منع الفتيات من قيادة السيارات. هذا أمر يؤذي مشاعرهم أيضاً. قالت إحدى الناشطات بأن عنصراً حوثياً أوقفها قائلاً «مابش سواقة من غدوة» (ليس هناك من قيادة سيارات من يوم غد). أكدت أنه راح يتأملها بعينين مفتوحتين، كما لو أنه يقع على هذا المشهد للمرة الأولى في حياته. وتكرر هذا في غير منطقة. في صنعاء مقاهٍ عدة مختلطة، بدأ حضور الفتيات يتناقص فيها خشية من طارئ قادم. تسير في الشوارع، فترى الخطوات تسير مرتعشة وكأنما تخشى فعل خطوة جديدة على طريق مجهول. صنعاء ليست باريس طبعاً أو حتّى بيروت، لكن أهلها كانوا قانعين بتلك المدنية القليلة التي كانت تتيحها لهم: الأشياء الصغيرة الحلوة والمفتوحة في الحياة وكانوا يفعلونها بدون ملاحقة من أحد أو جماعة. يراقبون اليوم بأسى وهم يرون كيف يفقدونها شيئاً فشيئاً وتتسرب من بين أيديهم.
كأنه فيلم. لكنّ الحياة ليست مثل السينما. السينما أجمل من الحياة. أجمل من حياة اليمنيين، بشكل أكثر دقة.