لم يمضِ تلامذة مدرسة كفرقوق الرسمية أكثر من ساعة في قلعة راشيا الوادي. جالوا في جناح الاستقلال المرمّم، وهو الجناح الوحيد المفتوح أمام الزوّار، ونزلوا الدرج يقهقهون إعجاباً بجواب زميلهم على سؤال «الأخبار» له: هل صرت تعرف شيئاً جديداً اليوم؟ إذ ردّ ساخراً: صرت أعرف أن هناك قلعة في راشيا.الفتى يعرف القلعة طبعاً. فهو ابن المنطقة، كما يعود ويقول لنا «وكنت أمزح معكم» يضيف خجلاً. لكنه، حتى عندما يقرّر أن يجيب بجدّية لا يجد ما يقوله سوى أن القلعة «سجن فيها رجالات الاستقلال».

تضحك العبارة الأخيرة كثيرين في بلدة راشيا الوادي. لا أحد هنا يتعامل مع أحداث الاستقلال بجدية، على الرغم من ارتباط اسم بلدتهم بهذه المناسبة.
ماذا يعني لك الاستقلال؟ نسأل أربعينياً يتمشى في سوق راشيا التراثية. يبدأ كلامه بجدية، ويقول مفاخراً «الاستقلال يعني لنا لكثير، وفي قلعة راشيا سُجن عظماء من لبنان». يتوقف عن الكلام، وقد شعر ربما بوقع الكلمة التي قالها. ينظر إلى الدفتر الذي ندوّن عليه ويطلب التغيير «لا ليسوا عظماء.. صححيها رجاء.. اكتبي زعماء مكانها». هكذا، يرضي ضميره. كما أرضى أهل راشيا ضميرهم عام 1943، وراحوا يرسلون الطعام إلى السجناء وهم: رئيس الجمهورية الشيخ بشاره الخوري ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح والوزراء: كميل شمعون وعادل عسيران وسليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي.
قدّمت راشيا
وجوارها أكثر من مئة شهيد في مواجهة الفرنسيين

«لا ندري إن كانوا يحتاجون فعلاً إلى الطعام حينها، لكننا متأكدين أن أهل بلدتنا قاموا بالواجب وأكثر» كما يقول رئيس جمعية محترف راشيا الفنان شوقي دلال، ناقلاً عن الشيخ أبو احمد علي مهنا، وكان يومها مختار راشيا، أنه كان يوصل الخبز السخن للرؤساﺀ في القلعة مخبئاً إياها تحت عباﺀته. وكان أهالي راشيا أوّل من أحيا الاحتفال بعيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943، مع إفراج سلطات الانتداب الفرنسي عنهم. «توجد صور لأهالي البلدة وهم يحملون رجال الاستقلال على أكتافهم» يقول دلال. كما توجد في القلعة، أو الجناح المفتوح منها، صور بالابيض والأسود لبعض الاحتفالات التي كانت تقام في البلدة إحياء للمناسبة. وهي جزء من معرض الصور الدائم الذي يظهر شخصيات لأهالي القضاء في مناسبات مختلفة. وفي العام الماضي، اختار رئيس الجمهورية ميشال سليمان أن يوجّه رسالة الاستقلال من القلعة.
لكن هذا الاهتمام الموسمي، لا يضيف شيئاً إلى راشيا. فهي لا تستثمر المناسبة بأية طريقة على الرغم من امتلاكها العديد من المقومات التي تتيح لها ذلك. إذ لا تزال البلدة تحافظ على بيوتها القرميدية الجميلة. وتغري سوقها التراثية التي بناها الفرنسيون، ورمّمت في عام 1997، بالزيارة، كما يتمسّك أهلها بعدد من العادات، بالإضافة إلى شهرتها في صناعة المدافئ ودبس العنب. رغم ذلك، غالباً ما تبقى القلعة، وكذلك المرشدة فيها سلوى ناجي، وحيدتين. تتأكد الشابة من مغادرة التلاميذ للمكان، فتحمل مفتاحها وتقفل باب جناح الاستقلال، ثم تعود إلى غرفتها الكبيرة والفارغة، إلا من مكتب وبراد صغير. تبدي سعادتها بالزوّار الذين يكسرون عزلتها، متوقعة أسبوعين حافلين بزيارات المدارس «ثم تعود الأمور إلى حالها».
حتى أهل البلدة قلّما يزورونها، والسبب؟ «قلّة فضاوة» يقول الإسكافي الوحيد في السوق. هنا، يستغرب الشيخ نبيه محمود السؤال عن الاستقلال. يطيل النظر إلينا، ثم يضحك، قبل أن يعلّق: «ماذا جرى لوسائل الإعلام. أمس كانت محطة «أل.بي.سي» هنا تسأل عن رأينا في إقامة الدولة الدرزية، وأنت الآن تسألين عن استقلال لبنان؟».
تناقض واضح، لكنه حقيقي أكثر من أي وقت مضى. لا يخجل الشيخ نبيه من القول إنه لا يعرف عن الاستقلال إلا ما قرأه في الكتب «فنحن جيل الحرب والاحتلال». لكنه يسجّل حضور الدولة الرسمي في هذ المناسبة «ونحن نتمسك بالدولة». يعود إلى الحديث الطاغي هذه الأيام عن الدولة الدرزية «طرحت هذه الفكرة خلال الاحتلال الاسرائيلي، وكانت ظروف إقامتها قابلة للحياة اكثر من الآن ولم تتحقق. واليوم عندنا إصرار على إفشال ما يخطط له أكثر من اي وقت مضى». وكيف يكون ذلك؟ «بانتمائنا للجيش لأنه المؤسسة الوحيدة التي تؤمن الخلاص لها البلد».
وبعيداً من الكليشيهات اللبنانية، يصدف أن يمرّ أبونا ادوار شحادة في المكان خلال الحديث. تعلّق أميّة سيّور «لا تستغربي. هنا، تدخلين إلى الكنيسة فتظنين أنها خلوة للدروز والعكس صحيح». الكاهن الذي يخدم البلدة منذ 27 سنة وجد فيها «مكاناً للعيش المشترك، وليس التعايش». يضحكه السؤال عن الاستقلال، لكن «لا بأس من الاحتفال به. الكحل ولا العمى خصوصاً في هذه المرحلة الصعبة التي تمرّ بها المنطقة».
لطالما عانت راشيا من مراحل صعبة. قبل الاستقلال بسنوات، شارك أهالي البلدة وجوارها في ثورة سلطان باشا الأطرش (الذي قاد الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين). فهاجموا القلعة عام 1925، التي كانت حصناً للجيش الفرنسي آنذاك واحتلوها لبعض الوقت. ورداً على ذلك قام الجيش الفرنسي بحرق البيوت في راشيا، وفي بلدة العقبة المجاورة التي دمّرت بشكل شبه كامل. واللافت، أنه توجد في الساحة العامة للقلعة اليوم لوحتان، تحمل إحداهما أسماء شهداء منطقة راشيا الذين يقارب عددهم الـ110، وتحمل الثانية أسماء القتلى الفرنسيين. وهي ظاهرة قلّما نجدها: أن تصطف أسماء القتلة والضحايا في مكان واحد. ويوضح دلال أن الفرنسيين كانوا قد تركوا أسماء شهدائهم، وعندما تسلم اللبنانيون القلعة، لم يزيلوها، لكنهم دوّنوا أسماء شهدائهم أيضاً. في تلك المرحلة أيضاً، رفض سلطان باشا الأطرش عرضاً فرنسياً بإقامة دولة درزية. «وهذا ما سنبقى نرفضه، ولو اضطررنا إلى إلصاق دول المنطقة المقسّمة بالألتيكو» يقول الشيخ نبيه محمود.




تاريخ القلعة



يعود تاريخ بناء قلعة راشيا الى العهد الروماني، إذ بنى الرومان حصناً لمراقبة القوافل التجارية. وفي القرن الثاني عشر، غزا الصليبيون المنطقة واختاروا القلعة حصناً لهم نظراً لموقعها الاستراتيجي، فسكنوا فيها وأضافوا إليها أبراجاً استعملت كمراكز للمراقبة والدفاع. وفي القلعة أيضاً أبنية شهابية تعود إلى عام 1370، عندما تولى الأمير حيدر الشهابي ولاية حاصبيا. ومع بداية القرن العشرين، وصل الجيش الفرنسي إلى وادي التيم وتمركز في قلعة راشيا. وفي عام 1920 بنى الفرنسيون السور الشرقي للقلعة، وأضافوا الى بنائها الأسواق الخارجية حتى اتخذت شكلها الحالي. بعد جلاء القوات الفرنسية عن لبنان عام 1946، تمركزت في القلعة فرق من الدرك اللبناني وبعض الإدارات الرسمية. ثم تسلمها الجيش اللبناني بتاريخ 1 أيلول عام 1964 ولا تزال في عهدته حتى اليوم.