تزامناً مع صدور هذا العدد من «مونودوز»، الذي يصدر لمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة، وبدء حملة الـ 16 يوماً الدوليّة، تُطلق جمعيّة «كفى»، اليوم، كتيباً بعنوان «تساؤلات زلفا حول قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري». وفيه، تتحدث «زلفا» (الصبيّة التي في الصورة)، عن ملخص اللقاءات مع النساء اللواتي تعرضن للعنف، في محاولة للإجابة على معظم الأسئلة المطروحة. زلفا «أونلاين»، ابتداءً من اليوم
مضت جدتي ولم يعرف أحد منا عمرها الحقيقي. كان أهالي الريف ينتظرون حتى يتكوّم أطفالهم ويزورون دائرة النفوس لتسجيلهم دفعة واحدة، فيذكرون التواريخ تقديرياً. هذا ما تمسكت به جدتي طوال حياتها، وفي كل مرة نبرز لها بطاقة الهوية، كانت تندد بالخطأ «التاريخي» الذي أضاف سنوات كثيرة لم تعشها. ولدت جدّتي في بلدة بشرّي ـ شمال لبنان، في منزل ملتزم دينياً وعشائرياً. كان والدها فقيراً متواضعاً وحنوناً ووالدتها متسلّطة وقاسية، امرأة ريفيّة بوجنتين من صخر. سُمّيت «جُنفْييف»، وهو اسم صعب يشبه الحياة التي عاشتها. وكونها «بنت»، سقط امتيازها. فالبنات للعمل داخل المنزل أو خارجه، أما الصبية فيرتادون المدرسة حاملين اسم العائلة. وهكذا كبرت جدتي مع أخوة لها، بين عتبة المنزل والحقل البعيد، تساعد في الأعمال المنزلية ومواسم القطاف في الحقل. أتقنت التنظيف وراحت تمارس هذه المهنة في منازل عدة أرسلوها إليها. لكنها، لم تعرف الليرة وقتها، فالأب او الأخ، في حينها، كان يتسلم أجرة الفتاة العاملة. من الريف إلى المدينة، أو بتعبير أدق، منازل المدينة، هكذا عرفت جدتي بيروت من جدران المنازل وأرضيتها التي دأبت على تنظيفها، لم تخبرنا يوماً عمّا تعرضت له في هذه المنازل الباردة، كانت تتحدث عن العمل فقط وعن إتقانها تحضير الطعام لتصبح متمرسة في ذلك وصاحبة «لقمة طيبة». كانت المدينة حلماً واسعاً لم تعرف كيف تبقيه في لياليها. امرأة ريفية تخاف المدينة. تعرّفت إلى جدي لاحقاً، فتزوجا وسكنا أحد سطوح بيروت. مع ذلك، كانت سعيدة وأبقت على عملها في التنظيف، ظلّت جدّتي تردّد أن السيدة المنتجة قويّة وقادرة وليست دمية يسهل كسرها، وهذا ما دأبت على تعليمنا إياه. لكن موت ابنتها البكر كسرها. أمل التي عاشت ثلاثة أيام فقط، وماتت من دون أن تعرف جدتي السبب، أو ربما عرفته وخجلت من إخبارنا إياه. هكذا أمضت ست سنوات، في حالة جنون هستيري وكآبة، إلى أن رزقت بابنة ثانية وأولاد آخرين، منهم من مات ومنهم من استمر على قيد الحياة، فكانت الحصيلة أربعة أطفال نُذروا جميعهم للقدّيسين. وأصبحت المرأة العاملة أماً، تنقل إلى أولادها أفكاراً ومبادئ لم تعرفها وكأنها كانت موجودة داخلها وراحت تتدفق فجأة. أفكار عن أهمية التفوق الدراسي والعمل والبروتوكول الاجتماعي والنظافة والترتيب، وكأن سنوات عملها عند عائلات برجوازية صدّرت لها أفكاراً، وجدت في أولادها فرصة لنقلها. عقدت صفقة مع مدير مدرسة خاصة بقرب منزلها تقضي بتعلّم الأولاد مجاناً، على أن تقوم هي بتنظيف المدرسة كاملة بعد الدوام. أُحرج أولادها كثيراً ـ أولاد «الخادمة» كما كانوا يُعرفون ـ لكنها لم تفكّر إلا بتعليمهم.
لم تتعلم جدتي القراءة والكتابة، ولم تعرف الحياة إلا من خلال العمل والأولاد وزوج يأتي متأخراً عند المساء. أما النزهة، فكانت أسبوعية إلى القداس. كانت تدير المنزل وتهتم بشؤونه، وتمارس دور الرجل الغائب في كثير من الأحيان. ورغم محاولات كثيرة، لم ينه الأولاد تعليمهم، وراحت جدتي تتلقى الصفعات واحدة تلو الأخرى. جاءت الحرب وتهجّرت العائلة من بيروت. الابنتان لم تنهيا تعليمهما، وابن ترك المدرسة من دون رضاها وابن آخر خطفه الموت. امرأة مثيرة للجدال. هكذا كانت جدتي بالنسبة إلينا، قاسية على أبنائها ورقيقة جداً معنا نحن أحفادها. كانت كتاباً للحكايا: سليمان الحكيم. جعفر البرمكي. شخصيات من الانجيل. كانت تأتينا بحكم حياتية قرأناها لاحقاً في الكتب. لم نستمع إليها في كثير من الأحيان ولكنها لم تستسلم. علّمتنا الصلاة واكتشفنا لاحقاً أنها كانت تصلّي لبيلاطس البنطي، فضحكنا كثيراً. جدتي ورثت الصلاة عن كهنة ربّتهم هي. حفظت الصلوات كي تنقذ من أحبتهم، وتمسّكت بالله كي يجمعها بابنها في يوم الآخرة. هذه المرأة الجبارة كجبل فتتها موت ابنها الصغير، ابن من آلاف حصدتهم الحرب اللبنانية، كان ضحية آخر حرب عرفها لبنان. أذكر جيداً كيف أن جدتي كانت تخرج من منزلها في الليالي التي عقبت حادثة الموت هذه لتبحث عن ابنها، وأذكر أيضاً كيف طحنت فكّيها وهي تضربهما بيديها. لم تعد بحاجة إلى فم لا يمكن أن ينده صوت ابنها.
احتاجت جدتي الكثير لتستيقظ من هذيان الفقد. لم تظن يوماً أن الحياة ستكون بهذه الوحشيّة. حاربت سطحيّتها ورفضت أن تخضع لأمور وجدتها شكليّة. الجمال بالنسبة إليها كان داخلياً فقط، فيما الروح تعكس جمال المرأة، لكن الروح لم تستطع مقاومة عنف هذه الحياة التي أحدثت ثقوباً كثيرة لم ينفع رتقها. استسلمت جدتي للمرض، فراح يضرب أجزاء منها ويخرّبها، لكنها حافظت على قوتها وبقيت تحضّر لنا الطعام وتجمعنا في الأعياد وتردد عبارات ظلت في الذاكرة وتمطرنا بالدعوات. حافظت جدتي على قوتها حتى آخر حفيد، أطعمته وغنّت له «frère Jacques» على طريقتها الخاصة مكوّرة يديها المجعّدتين. حافظت جدتي على قوتها طويلاً، ومضت كطفل. هذه المرأة الشاهقة التي كنا نتمسك بطرف فستانها راحت تتقلص مع سنوات المرض والفقد حتى أصبحت بحجم قبلة. خسرت عينيها وشعرها وأسنانها وجسدها الممتلئ، ورسيت صغيرة في سرير المستشفى. كأنها عاشت الحياة بشكل معاكس وغادرتها مكوّمة على نفسها كجنين. امرأة صغيرة بحجم قبلة.