أينعت نبتة حشيشة الكيف وآن موعد قطافها (التصنيع). عدد من مزارعي الحشيشة وتجارها ضربوا موعداً مع برد عاصفتي «ميشا» و«نانسي». إنه الوقت الأنسب للبدء بالقطاف والتصنيع، بعدما تدنّت درجات الحرارة، وباتت المادة الصمغية الزيتية متماسكة أكثر، ما يسهّل جمعها والإفادة منها.
في غرف ومستودعات مغلقة، تكدّست غلة الحقول الواسعة في بعلبك ــ الهرمل، بعدما نالت كفايتها من التجفيف تحت أشعة الشمس، في المرحلة التي تلي عملية القصّ بالمنجل.
هناك، في مكان ما في بلاد بعلبك ـ الهرمل، تعمل عائلة أبو أحمد إلى جانب عدد من العمّال، بصمت وسرية على قطاف موسم هذا العام من الحشيشة. وجوه توارت من غبار الحشيشة المتصاعد، فيما السواعد تضرب بالعصيّ دون هوادة على ساق النبات الذي فُرز بكميات قليلة من تلك الأكوام المكدّسة.
«الدق والتنقية والفرز» هي المرحلة الأولى في عملية التصنيع، بحسب أبو أحمد، والهدف هو فصل النبات والبذر عن الساق، لتنطلق من بعدها رحلة قطاف «المحصول الصافي». يكشف الرجل الخمسيني أن غلة الموسم الحالي ستكون وفيرة بإنتاجها، بعد ارتفاع نسبة الأراضي المزروعة بالحشيشة في المنطقة «نتيجة معرفة المزارعين أن الدولة لن تتلف هذا الموسم» يقول الرجل وهو يشرف على العمل مطلقاً توجيهاته وتعليماته.
يدرك مزارعو الحشيشة أن أسعار «هقّة» الحشيشة «نازلة منيح». فقد تدنّت نتيجة إقفال طرق التهريب في السلسلة الشرقية بفعل الأحداث الأمنية التي تشهدها المنطقة، إلا أن كلّ ذلك لم يحل دون إصرار عدد من مزارعي الحشيشة وتجارها على الاستمرار في زراعتها وتصنيعها،
انطلق سعر
الهقة بسعر أقلّ من انطلاقة الموسم الماضي بـ50%


زراعة القنب
ليست نكاية بل لأنها الأنسب لنوعية الأرض البقاعية



«مهما نزل سعرها تبقى مربحة لصاحبها، لأن كلفتها متدنية كثيراً نسبة إلى الزراعات الأخرى، والأهمّ أن لا وجع قلب في حال ضربتها صاقعة، أو احتاجت إلى مياه للري»، ودائماً بحسب أبو أحمد. يشرح الرجل طويلاً كلفة زراعة دونم الحشيشة بالمقارنة مع غيره من الزراعات، بدءاً من حراثة الأرض وسعر البذار (5 آلاف ليرة للكيلو)، وصولاً إلى التعشيب والريّ ومرحلة القصّ، «لا تتعدى كلفة كل ذلك المئة دولار». يكمل شرحه فيؤكد أن سوق الحشيشة تبدأ بسقف معين وتبدأ من بعده بالتراجع، فهذا العام انطلق سعر الهقّة (1250غ) من 500 دولار أميركي، وبفارق وصل إلى 50% عن انطلاقة موسم العام الماضي، «وإذا تدنى سعر الهقّة ووصل لحد 200 دولار، سيبقى المزارع رابحاً، ذلك أن أتعس دونم ينتج هقتين، يعني 400$ من الدونم الواحد» يقولها والابتسامة تسيطر على وجهه.
بعض مزارعي الحشيشة يخرجون من دوامة سوق بيع الحشيشة وأسعارها، فيلجأون إلى بيعها وتضمينها من الحقل مباشرة، في حين أن البعض الآخر الذي يملك المعرفة والخبرة في قواعد حركة السوق من عرض وطلب، وطرق احتكار كميات كبيرة من الإنتاج واختيار التوقيت في طرحها، يسعى إلى قطافها وجمعها، «والتاجر الصغير يبيع التاجر الكبير، اللي إذا ما نام الواحد منهم على سبع إلى ثماني تنكات حشيشة بالموسم ما بيهنالو عيش»، كما يقول أحد تجار الحشيشة.
بعد عملية القطاف والتنقية والفرز، يبدأ العرض على «المناخل» الأربعة المختلفة الفتحات، من «الغربال إلى المنخل إلى المخفف ومن ثم المقطف»، لتنتج أجود أنواع الحشيشة وهي «الزهرة». ويشير تاجر الحشيشة إلى أن «القطفة الثانية» تنتج «الكبشة باب أول»، بعد عرض بقايا القطفة الأولى، على طاولة غربال آخر يسمى «شريط الكبشة».
أما الأنواع الأخرى الأقلّ جودة من الكبشة باب ثاني وثالث، فتتواصل إلى حين بقاء «تبن الحشيشة». وتجدر الإشارة، بحسب تجار الحشيشة، إلى أن أسعار «الزهرة والكبشة باب أول» تختلف عن باقي الأنواع، وحتى بين إنتاج الأرض المروية والبعل، هناك فارق، فالأرض المروية «تجود بنوعية فاخرة أسعارها عالية، وثمة نوعيات في البعلية فريدة أيضاً ولها أسعار مختلفة».
لا يتوانى مزارع حشيشة آخر عن التوضيح «لكل الناس أن إقدام مزارعين في البقاع على زراعة نبتة القنب الهندي، لا يدخل ضمن إطار النكايات مع الدولة، وإنما لكونها الزراعة التي ناسبت نوعية الأرض البقاعية، ولكونها البديل المثالي من الزراعات التقليدية التي تخسر مع كل موسم في ظل غياب الدولة عن التعويض على المزارعين». يقول: «يا عمي اليوم صرخة مزارعي البطاطا اللقيسة طلعت، وكيلو البطاطا بـ300 ليرة بأرضه، بوقت كلفته مش أقل من 400 ليرة، مين بعوّض عليه مين بطعميلو ولاده؟».
تتوالى الأسئلة من المزارع ابن السبعين سنة: «لم لا تسعى الدولة فعلاً إلى تشريع زراعة القنّب الهندي بالبقاع، وتنظيمه كقطاع زراعي منتج، مثله كمثل قطاع التبغ ورخصه؟ هناك الكثير من الدراسات التي حكت عن الجدوى الاقتصادية الموضوع. طيب، أين صار الشمندر السكري؟ أين الزراعات البديلة؟ أين السدود التي يجب أن تكون منجزة من عقود طويلة ونحن على أبواب الجفاف كما يشرحون ويحكون؟ ماذا أنجزوا استعداداً لهذه الأزمة؟».
في غياب أي مشروع إنمائي في بعلبك ـ الهرمل، لم يكن أمام مزارعي الحشيشة في البقاع، الذين انتظروا طويلاً الزراعات البديلة، سوى اختيار زراعة النبتة التي تمتاز بمواصفات طبيعية تتناسب وطبيعة تربة ومناخ أراضي بعلبك ـ الهرمل. تجمع غالبية مزارعي الحشيشة أنها نبات يعيش على مخزون التربة من المياه، وعلى نسبة كبيرة من رطوبة الهواء، وأنه يملك جذوراً تناسب الجرود ولا تحتاج إلى أسمدة أو أدوية زراعية لعدم تعرضها للآفات الحشرية بالنظر إلى برودة الطقس والرياح.
فهل آن الآوان لتفكر الدولة مليّاً في تشريع زراعة الحشيشة، بدل الخوض في لعبة غض الطرف عن الزراعة، والتهويل بالتلف بالقوة؟ آذار المقبل موعد جديد مع نثر حبات «القنبز» في رحم الحقول البقاعية، فلننتظر!