كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام،بأن أمه، التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له: «بعد غد تعود»...
لا بد أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسفّ من ترابها وتشرب المطر
(انشودة المطر- بدر شاكر السياب)
«مطر مطر مطر»...
في غرفة النوم بركة صغيرة. وجدناها، ككل عام، تحت السرير. تتجمع المياه بعد أن تتسرب من شقوق الحائط، وتستقر على البلاط فتكون بركة صغيرة. في الشتاء والعواصف يحدث ذلك. يصفع المطر الحائط، فيدخل الماء من نقاط ضعف فيه إلى داخل البيت.

أيضاً من مكان ما قرب مكيّف الهواء، ينهمر الماء عندما يشتد المطر، فنضع وعاءً لاستيعابه، والبركة نحاول امتصاصها بمناشف، لكن بلا جدوى. أحضرنا في العام الماضي شركة لمعالجة «النش». أحضروا مادة بيضاء وسدوا بها الشقوق (غير المرئيّة) في الحائط، التي يمرّ منَها الماء. عملوا لساعات وظننا أن المشكلة انتهت. في «الشتوة» الأولى لم يدخل الماء، قلنا ممتاز. في الشتوة الثانية، كان يمكن أن يستحم المرء في البركة، أسفل السرير.
مع الماء على الأرض، والمكيّف الذي نخشى تشغيله لئلا يتلفه الماء المنهمر منه، تصبح الغرفة مكشوفة للبرد، ويصير النوم فيها مستحيلاً. هل قلت «مستحيلاً»؟
أخجل من قول ذلك. استحالة النوم في غرفة النوم هذه، تعني شيئاً واحداً بنظري: هناك استحالة للعدالة الإنسانية. لماذا؟ لأن النوم إذا كان مستحيلاً في غرفة، مكيف الهواء فيها معطل، ويتجمع على بلاطها بعض الماء، فكيف ينام إذاً من لا غرفة له ولا حائط (ولو كان ينش) ولا بلاط ولا مكيف (ولو كان معطلاً)؟ كيف ينام من يعيش في خيمة هشة على وحول متحركة في الصقيع، تحت ثلج ينهمر كالسكاكين؟
كيف ينام طفل رضيع في خيمة بلا جدران، بلا تدفئة، بلا غطاء، بلا وطن؟
«مطر مطر مطر»...
يستيقظ نيل، ابني الرضيع، ذو الأشهر العشرة من نومه، كما كل الأطفال، مرة كل بضع ساعات ويبكي. أسمعه، فأهرع إلى المطبخ. أضع ركوة فيها ماء على النار، وانتظر ريثما يسخن، ثم أضع الماء في عبوة الرضاعة، وأضيف إليه الحليب. أعد الملاعق بما يتناسب مع كمية المياه، ثم أركض إلى سرير طفلي، وأعطيه القنينة في فمه، فيتوقف عن البكاء. يرضع من القنينة، وأنا أراقبه، وأفكر: في هذه اللحظة، بينما يأكل نيل، في غرفة الجلوس (حيث نقلنا سريره بسبب الحالة المزرية لغرفة النوم)، هناك طفل، في خيمة على الحدود، يبكي. أسمع صراخه، بينما نيل هانئ مستسلم للرضاعة. أسمع صراخه، ولا يسعني شيء سوى التحديق في عيني نيل اللامعتين في الظلام، وفي وجه أمه النائمة إلى جانبه، وهو لا يعرف بعد شيئاً عن هذه الدنيا، ولا أعرف أنا بدوري أي مستقبل ينتظره وينتظرنا أنا وأمه. أسمع صراخ الطفل الغريب المشرد، وأرى أمه مختنقة في دموعها إلى جانبه، تحاول أن تكتم جوعه بالنحيب، وبذراعيها تطوقه لتعطيه دفئاً سقط منها في طريق النزوح من الوطن. يبكي الطفل في رأسي. فأغمض عينيّ علّي أسكته، من دون جدوى. ثم أفتحمها على نيل، وينتابني الشك الملعون بوجود الله، وأناجيه في سري: أين أنت؟ أيحق لي أن أحمدك على نعمة الدفء والشبع والسقف والوطن؟ (هل أنا حقاً في وطن؟). حسناً، الحمدلله على كل شيء. تعلمت ان اقولها، وأقولها مقتنعاً. حتى أنني أحمدك على المكروه، إذ لا يحمد على مكروه سواك. لكن، ما ذنب الأطفال في امتحانك الكبار؟ ما ذنب الشعوب في امتحان الأنظمة؟ هل تمتحن الأنظمة يا الله بشعوبها؟ أم تمتحن الشعوب بأن تسلط عليها أنظمتها؟ واولئك، يا الله، الذين يقتلون باسمك، بالسكين يذبحون باسمك، بالرصاص يحتفون باسمك، لماذا لا تسلط عليهم بردك؟ لماذا لا يضرب الصقيع الطاغية؟ لماذا تمطر فوق خيام المهجّرين ولا تمطر فوق قصر المهاجرين؟