ساحل العاج | في جولة زينات جابر على مزارعي ومنتجي «الكاكاو» في برّ ساحل العاج، بين سان بيدرو وسوبري والدلوة وديكوي وفافوا ثم في مرفأ أبيدجان، كان الجميع يظنّ أنها «مدام جابر». يبدون استغرابهم لصغر سنها بما أنهم يعرفون «المدام» منذ أكثر من خمسين عاماً. فتصحح لهم ابنة الثلاثين بأنها ابنة فريال السعيدي، المعروفة في قطاع «الكاكاو» بـ«مدام جابر»، نسبة إلى زوجها منذر الذي يعمل في شراء محصول «الكاكاو» من المزارعين وفي بيعه للتجار المحليين.
ذاع صيت الوالدة في إيسيا ثم في الدلوة، حيث تمايزت كامرأة باقتحام القطاع الخشن وإدارة عمل زوجها بدءاً من شراء «الكاكاو» من المزارعين في الأحراج، مروراً بتعبئته في الأكياس وقياس وزن كل كيس وتوضيبه في المخازن، وصولاً إلى تحميله في الشاحنات ونقله إلى شركات التصدير في أبيدجان. حتى الآن، يحفظ لبنانيو «الكوت دي فوار» أن الفضل للسعيدي بما حققه زوجها.
بعد زواجهما في لبنان، انتقلت ابنة الستة عشر عاماً للإقامة معه في منطقة البرّ، حيث كانت المعيشة بدائية. لا طرقات معبدة ولا كهرباء ومياه... نصحته بتطوير عمله واقتحام قطاع «الكاكاو» بالتعاون مع الشركات الأجنبية الكبرى، بدلاً من عمله حينها في التجارة والخردة. في الدلوة، نشأ أولادها بما تيسّر، مع عشرات العائلات اللبنانية التي كانت قد قصدت البر حتى التسعينيات. وهناك، فقدت شقيقها بسبب ضعف الإمكانات الطبية. وقبل سنوات قليلة، فقدت ابنها وابنتها في حوادث أخرى.
لم تمانع مدام جابر من قضاء ما تبقى من أيامها بجانب زوجها في مزارع الدلوة، إلا أن قرار ابنتها زينات باقتحام قطاع «الكاكاو»، دفعها إلى الانتقال إلى أبيدجان للبقاء معها. ابنة أمها درست الهندسة والتجارة في بلجيكا، لكنها لم تكمل، بل عادت لتقترح على والدها إنشاء شركة خاصة بها لتصدير الكاكاو والبن إلى الشركات العالمية مباشرة من دون المرور بالمصدّرين المحليين. «إنت مش قدها» جزم والدها. قبلت التحدي وافتتحت شركتها الخاصة عام 2008 لتكون المرأة الأولى في ساحل العاج في هذا المجال. الظن بأنها مدام جابر، أي أمها، ساعدها بداية على كسب ثقة الشركات في أوروبا. حالياً، صار لها فريقها الخاص المؤلف من موظفين عاجيين ولبنانيين. وفيما يستغرب كثيرون كيف أنها لا تزال صامدة ولم تعلن إفلاسها، اختارتها جامعة برشلونة الإسبانية قبل أشهر للاشتراك في برنامج تدريب لمديري الشركات.
شلة صديقاتها لا تختلف عنها. سيدات ينتمين إلى الطبقة «المرتاحة» بين لبنانيي ساحل العاج. بعضهن لم يكملن التعليم الجامعي لعدم وجود جامعات مناسبة حيث يعشن مع عائلاتهن، لكنهن أصبحن موظفات، منهن بتول التي تعمل مع والدها في إدارة مؤسسة لبيع المعدات الصناعية الثقيلة. فيما تعمل أخريات في السكريتاريا، أو صالونات التجميل أو محال لبيع الألبسة.
لبنانيات أخريات اضطررن للعمل لدعم معيشة أسرهن،
يعدّ باتيسيري
سلمى أيقونة الجيل القديم للبنانيات
ساحل العاج


مثل هنية سويدان التي غيّر تاريخ العشرين من آب 1978 حياتها وسجّل لها بداياتها مع رحلة التعب الذي لن ينتهي. كانت في السابعة عشرة من عمرها عندما وصلت إلى ساحل العاج مع والدتها وأشقائها هرباً من الاجتياح الإسرائيلي للجنوب وبلدتها الكنيسة (قضاء صور). ثلاثون عاماً عاشتها هنية في البر بين تيسو وبونو وياموسوكرو. البنت الوحيدة بين أشقائها الثمانية لم تتدلل، بل تحملت مسؤوليتهم، ولا سيما بعد مقتل شقيقها الأكبر عام 1979 على يد عصابة سرقة. عملت في تجارة المحصول (أرز وكاكاو وبن) وأدارت محل سمانة. في عام 2000، انتقلت للعيش في أبيدجان حيث افتتحت مع شقيقها الأصغر «فرن هنية» في منطقة ماركوري حيث تقيم. في عام 2008، نالت عطلتها وعادت إلى لبنان ليس لتستريح، بل لتتابع علاج والدتها حتى توفيت عام 2012. دفنتها وعادت إلى الفرن حيث لا تزال منتصبة أمام بيت النار.
في الشارع ذاته، يقع «باتيسيري سلمى». أيقونة الجيل القديم للبنانيات ساحل العاج. ابنة بلدة كفركلا الحدودية، نزحت باكراً إلى بيروت قبل أن تنتقل مع زوجها إلى ساحل العاج في الأربعينيات. فكرت بدعم تجارته القليلة وتحسين معيشة أطفالها، فبدأت بصنع الحلوى في منزلها وبيعه. على نحو تدريجي، افتتحت محلاً خاصاً بها عند مدخل منزلها. برغم وفاتها قبل ثلاث سنوات، لم يقفل «باتيسيري سلمى». صورة السيدة تعلو مدخل المحل الذي تديره ابنتها سلوى مرتضى حالياً.
في بناية النصر في منطقة بلاتوه تقيم صفاء قديح ضاهر. تستريح بعد 55 عاماً من الزواج والعمل مع زوجها في التجارة. تقاعدها اختارته بين لوحاتها التي رسمت أولاها عام 1960. قبل سفرها بدافع الزواج عام 1959، تعلمت ابنة النبطية أصول الرسم على يد أسعد رنّو في بيروت. في ساحل العاج، كانت تعمل قبل الظهر وترسم بعده. لم يؤثر التزامها العملي مع زوجها والعائلي مع أطفالها الأربعة في هوايتها. في عيد زواجها، اشتركت في معرض جماعي في قصر الأونيسكو في بيروت. في السبعينيات وحتى التسعينيات، اشتركت في معارض جماعية في ساحل العاج. قبل خمس سنوات، شاركت في معرض عن الجنوب في باريس. حالياً تعدّ لمعرض خاص بها في قصر الأونيسكو للوحاتها ومطرزاتها التي أرّخت من خلالها حياتها بين لبنان وساحل العاج.
جارتها في المبنى وابنة مدينتها آمال بيطار اختارت تعليم موهبتها في الأشغال اليدوية للأطفال اللبنانيين والأجانب والعاجيين. في الجامعة الأميركية في بيروت درست الديكور الداخلي قبل أن يعيدها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت كرهاً إلى ساحل العاج. هناك في مشغلها الخاص، تدرّب الرسم على الحرير وتصنع من البورسلان قطعاً فنية، لكن مقتنياتها الأفضل نقلتها إلى منزلها في بيروت حيث تنوي إقامة معرض خاص بها بعد سلسلة معارض شاركت فيها في ساحل العاج حيث ولدت. رندة حمدان زميلة صفاء وآمال في الرسم، لكن لبنانيات أخريات خضن مجالات أخرى. منهن من يدير مطاعم ومتاجر، ومنهن من تصنع المعجنات والكباب والماكولات في بيتها وتبيعها للنساء العاملات، ومنهن من درست التغذية والطب وطفل الأنبوب والعلاج الفيزيائي.. وافتتحن مراكز خاصة بهن.
هذا النجاح، كان يتطلب ثمناً، وخصوصاً بالنسبة إلى العائلات الحريصة على تعليم الأولاد اللغة العربية. هكذا، أرسلت صفاء ضاهر أطفالها الأربعة وحدهم إلى لبنان، حيث التحقوا بمدرسة داخلية. والسبب إصرار الوالدة الرسامة، وزوجها المثقف مصباح ضاهر على أن يتعلموا اللغة العربية، في وقت لم يكن يتوافر فيه سوى مدارس فرنسية وعاجية في ساحل العاج. بعيداً عن حنان ورعاية الوالدين، كبر الأطفال الذين كانوا يحظون بزيارة أقربائهم في العطل والأعياد. ضاهر وأمهات أخريات يعلنّ الندم بعدما كبر أبناؤهن، لأنهن ألقين بهم في جحيم «الداخلي» في الغربة.




الطلاق يتزايد

يقر إمام الجالية الشيخ عدنان زلغوط بارتفاع نسبة الطلاق في أوساط اللبنانيين، ولا سيما بين الشباب. ويعزو الأسباب إلى عوامل تنشأ في لبنان وأخرى تكتشف في ساحل العاج. يتحدث عن البنت ذات السبعة عشر عاماً التي لم تكمل دراستها، ويوافق أهلها على زواجها بابن أفريقيا لظنهم أن «معو مصاري». تجري الخطبة سريعاً خلال إجازته ثم يغيب لأشهر ليعود ويعقد القران والزواج ويحملها معه إلى هنا. وأحياناً، يتم النصيب من أوله إلى آخره في إجازة واحدة لا تزيد على شهر، لا يكفي للتعارف العميق بين العروسين. وينتقد انبهار بعض الأهالي والبنات بالهدايا والمال الذي ينفقه العريس ليغرّر به العروس. يقول زلغوط إن البنت تأتي إلى بيئة غريبة عنها قد لا تتأقلم فيها. البعد عن الأهل، يضاف إليه الطقس الاستوائي المتقلب، وتلوث الأجواء وهاجس الإصابة بالأمراض وانشغال الزوج بالعمل لساعات طويلة، كلها أسباب تؤدي إلى الطلاق. بعضهن اكتشفن أن العريس لم ينقل وضعه المادي والاجتماعي بأمانة، مثل أنه يعيش في شقة متواضعة مستأجرة في حي شعبي، أو أنه موظف لا يكفي معاشه لشراء شقة وسيارة في لبنان، أو أن لديه أولادا من سيدة أفريقية. «عيشة أفريقيا صعبة» يقول زلغوط، منبهاً بعض الأهالي إلى محاذيرها. هناك فتيات رفضن مطلقاً الزواج بابن أفريقيا، فيما اشترطت أخريات المجيء قبل إتمام النصيب لتعاين ظروف معيشة العريس قبل الموافقة.




الأفريقية: سيدة الكادحين والكادحات

مهما شمّرت لبنانيات أفريقيا عن سواعدهن في ميدان العمل، فهنّ لا يستطعن منافسة الأفريقيات في الكدح اليومي. في بسطات الشوارع والأسواق الشعبية والشركات والمحال، يغلب العنصر النسائي على الذكور. وفي السنوات الأخيرة، باتت السيدة الأفريقية تزاحم في سوق العمل بشهادتها. نجد السيدة السمراء تحت قيظ الشمس في معمل للإسمنت وصنع الحجارة أو منشرة للخشب أو مخزن للبضائع، تنقل حملاً ثقيلاً على كتفها. وبين هذا وذاك، لا تفك طفلها المربوط بقطعة قماش على ظهرها تلفها حول خصرها. على البسطة، لا تخجل من بيع الزبائن وإرضاع طفلها في الوقت ذاته. للسيدات الأفريقيات فضل خاص على العائلات اللبنانية. إنهن «الشغيلات»، ينظفن المنزل ويطبخن ويعتنين بالأطفال. وإذا ما قام أحد اللبنانيين بالزواج بسيدة أفريقية، فإنه يواجه في غالب الأحيان بحملة هجوم عنصرية.