المكان: الأشرفية ـ البداية والنهايةالزمان: 13 أيلول 1982
الحادثة: انفجار
المحصلة: بطلان

البطل الأوّل

وصل إلى بيت جدّه. حضّر فنجان قهوة ورزمة متفجرات كان قد جمعها على مدى أيام. شرب قهوته بتأنَ... وبالتأنّي نفسه «هندس» رزمته بطريقة تليق برئيس دولة متّهم بالعمالة مع بلد عدوّ. بطلنا هذا عيّن نفسه القاضي والجلّاد، مدفوعاً بعقيدة ليس فيها مكان للرماديّ. لا نعرف من شكله إلا صورة واحدة يتناقلها الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، كلّما حلّ 13 أيلول (ذكرى اغتيال بشير الجميل)، مذيلة بعبارة «لكلّ خائن حبيب».

ولا نحفظ من صوته إلا «نبرة العتب» على حزب ما عاد بالنسبة إليه «حزب سعادة»، قالها ذات يوم في مقابلة... هاتفية. لم يكن اغتيال حبيب الشرتوني، السوري القومي الاجتماعي، لـ»الحلم» قراراً حزبياً إنما قرار فرديّ. فبالنسبة له، خيانة رئيس الدولة لم تكن مقتصرة على الاتصال والتعامل مع العدو، ولا بالجلوس جنباً إلى جنب مع قاتل اسمه آرييل شارون. كانت لها أبعاد أخرى. فالشرتوني كان يريد اغتيال العمالة التي أباحت أرضه للمحتل. لهذا، الرفيق الحبيب لم يرَ في الرئيس البشير مخلّصًاً، ولا اعتبره مبشّراً بلبنان قويّ. بالنسبة لنصف اللبنانيين، كان حبيب بطلاً. بالنسبة للنصف الآخر... كان قاتلاً.

البطل الثّاني

وصل إلى بيته الأوّل. بيت الكتائب. كان على موعد مع رفاقه الذين عاهدوه وأجمعوا معه على ثلاثية «الله. الوطن. العائلة». ربما كان اجتماعاً مهماً، لكننا لم نعرف. فكل ما نعرفه أنه دخل واثقاً. لم يكترث بطلنا يوماً للإجراءات الأمنية رغم التحذير المستمر، إنما كان يردّ دائماً بالقول: «حياتي هي قدرٌ من الله». القائد لجأ إلى إسرائيل، بعدما اُغلِق 21 باباً في وجهه، 21 بلداً عربيَاً، كلّ بلد أراد تلك الفئة بيدقاً في يده. أما الفئة التي هو منها ولها، أقليّة الشرق التي وهبها حياته، فقد كان لها حكاية أخرى. قدّيس بكفيا امتشق سلاح الشياطين. نشأ في عائلة بورجوازيّة، ولكن، التف حوله مقاتلو الأرياف، دفاعاً عن قضيّتهم، عمّا اعتبروه: مسألة وجود. التقى بشير الإسرائيليين، والتقى الفلسطينيين، وخصومه اللبنانيين. بالنسبة إلى نصف اللبنانيين، كان حُلماً. بالنسبة للبقية... كان قاتلاً.

المكان: الحمرا.
الزمان: يوم عابر كغيره من عام 2014.
الحادثة: تلاقي الأضداد.

كان يفترض أن يكون طالباً في الجامعة، لكنه علّق دروسه لأنّ راتبه الشهري لا يتوافق مع طموحاته. أما هي، فصبيّة موهوبة، على عكس حظّها، التقيا في أحد مقاهي شارع الحمرا. بينهما قواسم مشتركة كثيرة، ليس آخرها همّ العودة إلى البيت مع بطن «شبعان» وعلبة مارلبورو. سألها عن شاب كانت ترافقه في ما مضى، فجاء جوابها بارداً «يا أخي تراه حاملًا القضية على كتفيه، يناضل ليلاً نهاراً لتحرير هذا وذاك وهو إلى الآن لم يحرر شيكاً واحداً في حياته». يعني «ما ماشي الحال». حسنًا. تبادلا أحاديث عابرة بين صحن تبولة وصحن حمّص. هنا أيضاً، تضيع الهوية، رغم دخول الصحنين كتاب غينيس، بجنسية لبنانية (مبروك).
سألها عن عائلتها، في محاولة للابتعاد من موضوع الشاب المناضل، فأجابته بأن أمها في بشرّي. لم تكمل الصبية جملتها، حتى اشتعلت الشرارة. شتم صديقنا القوّات اللبنانية وسمير جعجع... ممازحاً. أجابته الشابة «والله أنا لا أحبّه، فلا تحاول أن تؤثر عليّ بمزاحك السمج هذا!». يقولون إن اللبيب من الإشارة يفهم، وصديقنا لا يكنّ للّبيبِ بصلة... إنما لحبيب. أطلق العنان لسماجته «لا تنسي أنتِ في الحمرا!» الرّفيق يعتبر أنّ الحمرا منطقة نفوذه، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يتعرّض له. مع ذلك، كان يقصد شيئاً واحداً: أن يسمع شتيمة بشراوية، بلكنتها المحببة إليه، ليضحكا قليلاً. ثم أضاف: «أصلاً إلكن بدمّتنا واحد!».
وكما كان متوقعاً، انهالت عليه الصبيّة بشتائم بشرّاوية، وتحوّلت الجلسة من وديّة إلى مباراة حادّة بين فريقين، فريق حبيب وفريق بشير.
حديث الطرشان دار بينهما، لكن كان لافتاً إيمان الصبيّة ببشير «الأمل» والشّاب بحبيب «العدل». طيّب، ما الحل؟ ليس هناك حل ولا وصفة سحرية أو خاتمة تقول لنا من صاحب الحقّ. هناك تاريخ ووقائع، في هذه القصّة بلد وأكثر من عدوّ وبطلان.
تشارك الشّاب والصّبيّة في دفع الحساب وقررا الذّهاب إلى حانة قريبة ليكملا سهرتهما. تركا وراءهما صحني التّبولة والحمّص كما تركا حبيب وبشير في أروقة شارع الحمرا، لعلّ التاريخ يبيّض صفحاته يوماً ما. ولكن حتّى يُكتب هذا التاريخ، على الشّعب العنيد أن يتفق أولاً، ليتوافقوا على كتاب واحد. على الشّعب أن يتّفق على مفهوم واحد للعمالة، مفهوم واحد للخيانة، أو يعترف الواحد بمفهوم الآخر القديم، ويكتب كتاباً جديداً. إن شعباً يحكّم غرائزه الطائفية والمناطقية بدلاً من عقله، لم ولن يتمكّن من صياغة تاريخ يحدّد من هو العميل ومن هو البطل، وصدق من قال: «إنّ الرأي العام اللبناني بغل يرفس ويلبط في عرض الحائط وقائع وصوراً ومجازر».