كقطةٍ مرقطّةٍ بالبني والأبيض، يبدو الجبل واقفاً حائراً بين الجرد والثلج. لكن الأمر محسوم، ففي ميدان التزلّج بفاريا، مازال لون الجرد البني أقوى من الأبيض. الطريق إليه، ليست محاطة بالثلوج، وبديهياً، لا مبرر لوجود خيمٍ صغيرة، لبيع ملبوسات سميكة من سترات وقفازات وقبعات صوف بأسعار رخيصة. لكن استباق الموسم هو سمةٌ من سمات موسم العمل في هذه المنطقة. لا موعد محدداً لسقوط الثلج وبدء موسم التزلج ومستلزماته من شاليهات ومطاعم وإكسسوارات.
يمكن إحصاء المتنزهين فوق بقع الثلج الطفيفة، إذ لا يشكلون كتلةً بشريةً كتلك التي تتناثر في ساحة التزلج في أيام الازدحام. المشهد الأخير هو المأمول من جميع أصحاب المصالح على طول الطريق الواصل إلى باحة التزلج. حين يهطل النفناف الناعم يسري خبر وصوله كالسيل، ومبرّره القلق من موسمٍ جديد كموسم العام الماضي، وبلغتهم يعني ذلك: لا موسم.
بانتظار عاصفةٍ ثلجية تسبق عيد الميلاد ولو بيومٍ واحد، يعيش أصحاب المصالح الاقتصادية في فاريا. بلغةٍ مرحة، تجيب هيلانة مهنا وصديقاتها المجتمعات في متجرها، عن سؤالٍ عفوي حول شعورهن حين يرين الثلج يتساقط. «نشعر أن الكمبيالات ستدفع ولن تردّ إلى البيوت». قد يكون في الأمر مبالغة، إذ أن غالبية «تجار التزلج» في فاريا ومحيطها هم من الميسورين مادياً، الذين لا تهزّهم رياح غياب المواسم. هذه الفكرة تتوضح أكثر، عندما يأخذ الحديث طابعاً أكثر جديةً. هيلانة مثلاً،
لم يفت أوان
تساقط الثلوج وقد يسبق عيدي الميلاد ورأس السنة




لا تتعامل مع متجر التزلج الذي تملكه وكأنه مصدر دخلها الوحيد.
اعتاد أهالي المنطقة القلق على أرزاقهم منذ عام ٢٠٠٥. منبع القلق ليس شح الثلج، إذ أنه من العام ٢٠٠٥ وحتى عامنا هذا، مرّ فقط موسم واحد شحيح هو شتاء ٢٠١٣. ثمة لازمة يرددها الجميع هنا في فاريا: ما قبل اغتيال الرئيس الحريري ليس كما بعده. التحوّل الذي ضرب مواسم الثلج ليس مناخياً، بل سياسي وأمني، بدأ تردداً من السيّاح وتحول إلى شبه مقاطعة. جولة سريعة في مسافة لا تتجاوز كيلو متر واحد، توضح الأزمة.
كانت عربة محمد اسكندر المليئة بعرانيس الذرة والكستناء التركية، تدرّ عليه مربحاً يتجاوز مليون ليرة يومياً، خلال مواسم ما قبل ٢٠٠٥. انخفض المدخول إلى أقل من مئة ألف ليرةٍ يومياً. محمد، من الهرمل، ويسكن في الشياح. كان رزق الثلج يستحق مشواراً يومياً من الشياح إلى فاريا. مازال المشوار على حاله، لكن بلا زحمةً تحيط بالعربة. يتحسر على «الزمن الجميل»، يوم كانت السيارات تملأ الطرقات باتجاه مكان التزلج. كان عناصر قوى الأمن يقطعون الطرقات حين تمتلئ بالسيارات، ولا يسمحون بدخول سيارةٍ إلا عندما تفرغ سيارة أخرى مكانها. غالباً ما كانت السيارات للسياح، الخليجيون منهم خصوصاً. تريد هيلانة للدولة أن تكون أكثر حضوراً ولا سيما عبر وزارة السياحة. تشكو، وتثني صديقاتها على ما تتحدث به، من غياب المراقبة. كيف ذلك؟ تطالب بالعمل على إنهاء ما وصفته بحالة «المافيات» التي تصطاد الزوار على الطرقات وتأخذهم إلى محال معينة لاستئجار عدة التزلج. لماذا لا تضعون من يرشد الناس إلى متجركم ولا سيما أن غالبيتهم من خارج المنطقة؟ ترفض المقترح بشكلٍ قاطع: «الزبون لازم يعرف حالو لوين يروح». لم تكتمل حتى الآن الحجوزات في الفندق الذي تملكه هيلانة، خلافاً لفندق صديقتها ليلى في عيون السيمان. امتلأت حجوزاته لسهرتي الميلاد ورأس السنة. هيلانة مطمئنة أيضاً ومثلها عدد من أصحاب المصالح. لم يفت أوان تساقط الثلوج، وقد يسبق ذكرى الميلاد، فتتحسن الأمور، ويبدأ الموسم الذي يشكل أسبوع الأعياد (الميلاد ورأس السنة)، نسبةً تتراوح بين ٤٠ و٥٠ في المئة من حجم العمل والمردود الموسمي.
صعوداً، تكثر الدراجات النارية الجبلية، إذ إن النشاطات السياحية لا تقتصر على الثلوج، وطالما أن الـ«سكيدو» غائب لغياب سماكة ستين سنتمتراً من الثلج وأكثر، تحتل رحلات الـ«atv» والسيارات الرباعية الدفع المشهد. بين هذا الجمع من الآليات، يسهل تمييز سيارة أبو أحمد وأبو صالح.
داتسون من بداية ثمانينيات القرن الماضي، من المستغرب أنها تقوى على السير في الجرود الوعرة، وفيها ما فيها من مكسراتٍ وحلوى وشرش الزلوع المطبوخ. الزلوع الموضّب في علب مغلقة بإحكام، كان محور جدالٍ بين أبو أحمد ورب أسرةٍ عراقي رفض شراءه بدايةً لارتفاع ثمنه (مئة دولار للكيلو)، لكنه اشتراه قبل المغادرة، بعدما أقنعه أبو أحمد أن سعر الزلوع المطبوخ في المتاجر المتخصّصة بطب الأعشاب يتجاوز ٢٥٠ دولاراً، ولم يتسنَ لنا التأكد من معلومة أبو أحمد. في السيارة، يصطف جوز الزبداني قرب لوزها، فيما يوضب أبو صالح المكسرات بشكل دائم. يسكن أبو أحمد في فاريا مع عائلته، أما أولاده الخمسة فيدرسون في جامعة دمشق ويسكنون في منطقة نبع عين الفيجة بريف دمشق. يتناقشان أيهما أطيب: مياه عين الفيجة أم فاريا؟ أبو صالح: مياه عين الفيجة دافئة شتاءً وباردة جداً صيفاً. أبو أحمد: لا أشرب إلا مياه فاريا منذ جئت إلى لبنان. يستعدان للمغادرة، بسيارتهما وسيارتين في نواحي مختلفة من الجرد، ومن تتعطل سيارته يساعده الباقون. هذا نظام العمل قبل أن يصل الثلج. يبدأ الغروب بالوصول، تنخفض الحرارة فيصمد الثلج أكثر، منتظراً عاصفةً جديدة تكمل انتشاره، لتجعل الجبل دباً أبيض كبيراً، وعلى هذا الأمل يتفاءل أهل فاريا. فلتقطع الثلوج الطرقات أياماً قليلة، ليفتح موسم التزلج ذراعيه بعد شوقٍ دام أكثر من سنة.