«معك دقيقة»، يقول الرقيب وهو ينزع صندوق الذخيرة المليء بالتراب من فوق الدشمة، لكي يتسنى للزائر التصوير من أحد مراصد الجيش السوري على محور «حميدة الطاهر» في حي السحاري وسط مدينة درعا. اقتناص الصورة يسابق قنّاص «جبهة النصرة» المتربّص في المتراس القريب.
الجبهة ساكنة بعد أسبوع من المعارك العنيفة، وخطوط طويلة من السواتر الترابية والاسمنتية والأبنية المحصنة، ترسم معالم القِسمة بين الدولة السورية والجماعات المسلحة داخل المدينة. هنا على المحور المقابل لتلة الكرك، أو طلعة درعا البلد، يرابط الجنود في مقابل مسلحي «النصرة» و«حركة المثنى» و«الجبهة الجنوبية» و«الجيش الأول» المدعومين من غرفة العمليات الأردنية «الموك».
الجولة مع المقدم عمّار (اسم مستعار) على خطّ الصد «حميدة الطاهر ـــ المخيم الفلسطيني» تُظهر ركاماً رمادياً هائلاً على خطي التماس. يمتد خط الصدّ من حديقة حميدة الطاهر إلى المشفى الوطني ثم جامع عبد العزيز أبازيد وأفران العدنان، فساحة بصرى ثم سوق الهال ومؤسسة السكر.
معنويات الضابط مرتفعة وجنوده كذلك بفعل «نشوة النصر»، بعد الهزيمة التي أصابوا بها المسلحين. «لم يتم دحرهم فقط، بل جرى القضاء عليهم قضاءً مبرماً أيضا»، يقول المقدم بلهجته الجبلية.
من هنا تبدو طلعة درعا البلد الغربية، وتظهر قبة جامع الحمزة الزرقاء اللون، وكذلك يظهر طريق «الخط الشرقي» مقفراً، وهو الشارع الذي انطلقت منه أولى تظاهرات آذار 2011.
ينتشر الجنود كلّ في مرصده وموقعه بكامل عتاده الحربي، فـ«الجبهة هنا غدارة» يقول باسم ابن دير الزور. «تلات أيام ما نمنا»، يروي الجندي الشاب عن ثباته ورفاقه في مواقعهم برغم كثافة القصف، مانعين المسلحين من التقدم. على هامش أخبار المعركة، يقول: «ما بعرف أي شي عن أهلي... يمكن ما صِفي غير رفقاتي وأهل درعا... هادول أهلي هلق».

فشل إسقاط درعا دفع
«الموك» إلى الإعداد لهجوم يستهدف خربة غزالة

يقول المقدم إنّ لحيته بدأ يغزوها الشيب، فهو سبق أن حوصر مع جنوده في إحدى جبهات الشمال، تاركاً الحكاية «لوقت لاحق». يصف الضابط الحاد المزاج قسوة المعارك على محور العدنان، لكنّه يردّد بثقة كبيرة أن «درعا ما بقا يحلموا فيها المسلحين، كل مرة عم نقتل 200 منهم».
وبحسب تقرير المعركة، دمّر الجيش في الهجوم الأخير على هذا المحور عربة «بي. أم . بي.»، وأعطب دبابتين، لكنها لم تتدمّر لأنها «مدرعة بثلاث طبقات». «هيدي العقول مو من هون، التدريع محترف» يقول الضابط، فيما تؤكّد مصادر أمنية أن المسلحين حصلوا أخيراً على مجموعة دبابات من طراز «تي. 72» معدّلة لمصلحة الأردن.
إلا أن تقرير المعركة يكشف عن أن «المسلحين قصفوا خطوط التماس باستعمال غاز الكلور في قذائف الهاون»، إضافة إلى «حشو قذائف بالكبريت» ما سبّب حالات اختناق في صفوف عددٍ من الجنود.
الوقت لا يتّسع لزيارة المحور الشمالي الغربي قبل حلول الظلام، ولا سيّما معلمه الأبرز تل زعتر. إلّا أن ما حدث في التّل خلال المعركة الأخيرة يصفه القادة العسكريون والأمنيون بـ«المقتلة». إذ تجرى استدراج المسلحين إلى كمين بعد التمويه بالانسحاب من المواقع الأمامية في التل، ومن ثمّ جرى الإطباق على المجموعات المهاجمة. وبحسب مصادر أمنية سورية، فإن «المجموعات المسلحة نقلت إلى مقبرة في قرية العجمي في وادي اليرموك ما يقارب الـ 150 جثة».
وتشير المصادر إلى أن «أحد أسباب الصمود وهزيمة المسلحين هو الرصد الدقيق الذي تقوم به الأجهزة الأمنية لمنع أي خلية أمنية من التحرك داخل المدينة خلف خطوط الجيش، لارباكه خلال هجوم المسلحين»، من دون أن تنفي المصادر وجود «خلايا رصد تزوّد المسلحين بالمعلومات داخل المدينة».
وينعكس فشل احتلال درعا بحسب أكثر من مصدر سياسي وعسكري سوري ليس فقط على تركيبة وبنية الجماعات المسلحة وعلى ما بقي من بيئتها الحاضنة في القرى، بل أيضا على غرفة العمليات الأردنية «الموك» نفسها، وعلى «الدور الأردني المتخبّط» في الجنوب السوري. ففي مقابل الارتياح الذي يسود ميدان الجنوب من السويداء إلى درعا والقنيطرة من ناحية الجيش، تزداد الخلافات بين قادة المسلّحين، الذين يتبادلون اتهامات التخوين، بالتزامن مع بدء «الموك» (التي يديرها ضباط غربيون وخليجيون وإسرائيليون وأردنيون) بفتح ملفات الفساد للمتورطين من قادة المجموعات بإهدار الأموال والأسلحة، ولا سيّما قائد «جيش اليرموك» بشار الزعبي، الذي يخضع للتحقيق في «الموك» منذ أسبوعين مع عددٍ من قادة المسلحين، كما أن عدداً من قادة المجموعات ترك سلاحه وهرب إلى الخارج بما جناه من أموال، ولا سيّما قادة «لواء المعتز»، كما طمر عدد من العناصر سلاحهم، وبدأوا البحث عن تسوية مع الدولة السورية في القرى الشرقية.
كذلك دفع فشل إسقاط درعا غرفة «الموك» إلى بدء الإعداد لهجوم يستهدف بلدة خربة غزالة على غرار سيناريو عام 2013، بغية قطع أوتوستراد دمشق ــ درعا، ومحاصرة المدينة. وتشير المعلومات إلى أنه من المقرّر أن يقود «لواء شباب السنة» التكفيري، الذي يقوده أحمد العودة ابن بلدة بصرى الشام، الهجوم بالتعاون مع «الجيش الأول»، على الرغم من الخلافات التي اندلعت أخيراً بين العودة وصابر سفر قائد «الجيش الأول»، فيما يؤكّد القادة العسكريون السوريون أن «الجيش مستعدٌ للمواجهة وستكون معركة خاسرة ومكلفة للمسلحين».