كانت لافتةً التصريحات التي تبادلها الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أمام وسائل الإعلام، عند لقائهما الأخير في موسكو. ليس فقط بسبب النبرة المتعجرفة التي تحدث بها نتنياهو حول أنه يخشى أن تحصل اصطدامات بين القوات الإسرائيلية والروسية في سورية، ولكن أيضاً بسبب الرد الروسي الذي بدأ بإدانة «عمليات القصف على الأراضي الإسرائيلية».
وأضاف بأن «الجيش السوري وسورية عموماً في حالة لا تسمح لهما بفتح جبهة ثانية، إنهما يسعيان للحفاظ على الدولة». يمكن فهم كلام الرئيس الروسي على أنه رسالة مزدوجة، إلى إسرائيل بالدرجة الأولى وإلى سورية بالدرجة الثانية. فإسرائيل كانت قد أجرت عدة مناورات عسكرية في الجولان السوري المحتل، كانت آخرها مناورة لقوات المدفعية يوم 19 أيلول الجاري. وقبل شهر بالتمام من زيارة نتنياهو، كانت إسرائيل قد قصفت أربعة عشر موقعاً عسكرياً سورياً رداً على إطلاق أربعة صواريخ على إسرائيل. وبالمقابل دار الحديث في سورية عن أن ما حصل في الجولان هو من فعل «المقاومة»، وأن التوجه هو لفتح الجولان أمام المقاومة، ربما ضمن استراتيجية جديدة لردع إسرائيل.
كلام نتنياهو حول خشيته من حصول اصطدامات أو تقاطعات بين القوات الإسرائيلية والروسية في سورية يوحي بأن العمل العسكري الإسرائيلي ضد سورية آت قريباً، وتحديداً تحت ذريعة الرد على إطلاق الصواريخ على الجولان من قبل المقاومة، سواء السورية أو اللبنانية. بالمقابل جاء تصريح الرئيس الروسي ليطمئن نتنياهو بأنه لا يوجد مبررٌ منطقيٌ لردٍ عسكري، فسورية ليست في وارد فتح جبهة ثانية. والتصريح الروسي كان أيضاً موجهاً لدمشق، وللجمهور السوري عموماً، بأن الأولوية اليوم هي للتركيز على معركة الحفاظ على الدولة السورية، فتلك هي المعركة الأهم. أما فتح جبهة للمقاومة في الجولان، فقد لا يكون بالخيار الصائب، في هذا التوقيت. إن مراجعة مسار الأحداث في الجولان خلال الأشهر القليلة الماضية تظهر أن أيّاً من عمليات إطلاق القذائف على الأراضي السورية المحتلة لم تحقق نتائج ذات قيمة عسكرية حقيقية، ولكنها بالمقابل استدرجت ردود فعل إسرائيلية كبيرة، أوقعت خسائر كبيرة لا تتناسب مع الخسائر المحتملة للقذائف القليلة التي أطلقت على إسرائيل.
وقد لا تكون هذه هي المرة الأولى التي توجه فيها موسكو رسائل أو تلميحاتٍ لدمشق عن سياستها الخارجية. ولو اكتفينا بالبحث في أحداث هذا العام لوجدنا، على الأقل، مناسبتين اثنتين وجهت فيهما مثل هذه الرسائل والتلميحات. الرسالة الأولى كانت ضمنية نوعاً ما، وإن كانت مفهومة. تلك الرسالة جاءت عندما سمحت موسكو بمرور قرار مجلس الأمن الرقم 2216 الذي ينص على دعم سلطة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ويطلب من الحوثيين التخلي عن السلاح وعدم الاعتداء على السلطة الشرعية والكثير من التفاصيل الأخرى، التي صدرت جميعها تحت الفصل السابع – أي إن قرار مجلس الأمن سيطبق بواسطة القوة. كانت الرسالة الروسية واضحة ومفادها أن ما قام به الحوثيون في اليمن مثّل تجاوزاً للخطوط الحمراء للقوى الكبرى، ولما يمكن أن يقبل به العالم، وبالتالي لا ينصح بالرهان أو التعويل على مسار آخر للأحداث هناك، فذلك الرهان خاسر على الأغلب، ولكن دمشق، وإن لم تتخذ موقفاً رسمياً مؤيداً للحوثيين، إلا أن تصريحات بعض المسؤولين فيها واللغة المستخدمة في الإعلام الرسمي السوري، تشير إلى تبني موقف مؤيد بالفعل للحوثيين.
أما الرسالة الروسية الثانية، فكانت عندما دعت موسكو دمشق للتصالح مع الرياض، تحت مظلة التحالف لمكافحة الإرهاب. موسكو، المدركة تماماً لحجم الخلاف بين الرياض ودمشق، والدماء التي أهرقت حتى الآن، تدرك جيداً أن مقولة الحل السياسي للأزمة السورية تعني عملياً وصراحةً تصالحاً سياسياً بين دمشق وخصومها، وعلى رأسهم الرياض. وموسكو تدرك أيضاً أن انتكاسات الجبهة الشمالية في النصف الأول من هذا العام كانت بسبب تخطي الرياض وأنقرة لخلافاتهما السابقة، وتدفق السلاح النوعي، ممثلاً بصواريخ «تاو»، من المخازن السعودية عبر الحدود التركية. ومن وجهة نظر موسكو يبدو أن الحل المنطقي لمثل هذا الوضع المعقد لا يكون من خلال الرهان على ما قد يجلبه الميدان، سواء في اليمن أو في سورية، بل من خلال الرهان على اللقاء بين الرياض ودمشق والبحث عن أرضية للتصالح والعمل المشتركة. وكلما كان ذلك اللقاء أسرع كان الحل أبكر.
روسيا، الحليف الأقدم والأكبر لسورية، لم تتصرف في علاقتها مع دمشق من منطلق الوصاية أو الولي الآمر. بل تصرفت دائماً من منطلق الحليف الدائم الحريص على مصالح ومكانة حليفه. وللتوضيح أكثر، وعلى سبيل المثال، بالرغم من إدراك موسكو لضرورة تصفية الخلافات السياسية بين دمشق وخصومها، إلا أن موسكو لم تسع لعقد اتفاق خاص بها مع الرياض وفرضه على دمشق، بل أرادت أن تحل دمشق والرياض خلافاتهما وحدهما على نحو مباشر. وبالرغم من أن فكرة التصالح بين دمشق والرياض كانت من بنات أفكار الرئيس الروسي، الذي أراد على ما يبدو اجتراح معجزة كبيرة تقدم حلاً للأزمة السورية، إلا أن موسكو لم تغير موقفها من دمشق، أو تمارس ضغوطاً عليها، عندما لم يسر اللقاء مع السعودية كما أُريد له، بل ما حصل هو العكس تماماً. فالأحداث الأخيرة تظهر أن موسكو انخرطت على نحو كبير في عملية نقل سلاح وأفراد إلى سورية. والحديث يدور حتى الآن عن نحو عشرين إلى ثلاثين طائرة مقاتلة وقاذفة من طراز سوخوي 24 وسوخوي 25 وسوخوي 30، وصلت بالفعل إلى سورية، إضافةً إلى مروحيات وعربات مدرعة وطائرات من دون طيار وسوى ذلك، كما أن السفن الروسية التي تنقل الذخيرة والعتاد والمحروقات لم تنقطع عن الرسو في الموانئ السورية آتيةً من الموانئ الروسية في البحر الأسود.
موسكو، وإن كانت لا تتبنى رؤية دمشق نفسها للعلاقات في الشرق الأوسط، إلا إنها ليست في وارد ترك حليفها الأهم يضعف بعد هذه الحرب الطاحنة، وهي أيضاً ليست في وارد ممارسة ضغوط عليه أو في وارد إحراجه عبر طرح مبادرات جدلية عبر الإعلام، قبل أن تطرحها عليه وتستمزج رأيه أولاً. وموسكو بالطبع ليست في وارد فرض تغييرات في بنية الدولة السورية، أو دستورها، أو التركيبة الديموغرافية لها بل حرصت موسكو على أن يمر دعمها الأخير عبر تدعيم مؤسسات الدولة السورية، وعلى رأسها الجيش العربي السوري، وليس عبر إنشاء المزيد من المجموعات المسلحة غير النظامية. فالمعركة هي معركة تفكيك الدولة السورية والانتصار فيها يتطلب تدعيم مؤسسات الدولة وليس دفعها للتشظي. وربما هذه الأخيرة قد تكون الرسالة الرابعة التي توجهها موسكو لدمشق.