ظهرت «جبهة النصرة» في المشهد السوري أوّل الأمر بوصفها واحدة من المجموعات المسلّحة الهادفة في الدرجة الأولى إلى «حماية الشعب السوري، والسعي إلى إسقاط النظام». ورغم مجاهرة بيان تأسيسها بأنها تسعى إلى إسقاط النظام وتحويل سوريا إلى دولة «تحكم بشرع الله»، فإن تحاشي الكشف عن صلتها بتنظيم «القاعدة»، أفلح في إبقائها (مؤقتاً، وظاهريّاً) بعيدةً من تبعات السمعة المتطرفة التي يوصم بها التنظيم الأم.
عملت «النصرة» في تلك الفترة بأسلوب يُشابه «منهج حركة طالبان»، ورغم وجود نسبة كبيرة من «المهاجرين» في صفوفها، لكنّها أفلحت في المحافظة على مظهر «المجموعة السوريّة». في تلك المرحلة، كان لـ«النصرة» الدور الأول في تأسيس «الهيئات الشرعيّة»، والتي كانت وسيلَتها لجمع معظم المجموعات تحت رايتها بشكل غير مباشر.
كان تظهير حقيقة «النصرة» إلى العلن، ومجاهرتها بالتبعية لتنظيم «القاعدة» نقطة تحول أساسية في العلاقة بينها وبين باقي المجموعات، وعلى وجه الخصوص تلك التي كانت محسوبة على «الجيش الحر». صارت الأخيرة تسعى إلى إخفاء ارتباطاتها وتحالفاتها مع «النصرة»، فيما استمرّ التنسيق بين الطرفين على معظم الجبهات التي كانت «الجبهة» في حقيقة الأمر الفاعل الأكبر فيها. وكان لاندلاع «الحرب الأهلية الجهادية» بين «النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية» دورٌ كبير في تغير علاقة «الجبهة» بباقي المجموعات. وعلى الرغم من أنّ «النصرة» لم تُصرّح بذلك في خطاب علني، غيرَ أنّها رأت في حقيقة الأمر أنّها تعرّضت لخذلانٍ من معظم الحلفاء. تُركت «النصرة» في المناطق الشرقيّة على وجه الخصوص في وجه «داعش» الذي كان في أوج قوته، في الوقت الذي اتحدت فيه معظم المجموعات في ريف حلب ضدّ التنظيم. يتجنّب مصدر «جهادي» مرتبط بـ«النصرة» الخوض في هذه التفاصيل، ويكتفي بالقول لـ«الأخبار» إنّ «الجبهة لم تنل المؤازرة الكافية من باقي الفصائل. تخلّى البعض عنّا بسبب سوء تقدير، والبعضُ بسبب سوء نيات».

«الولادة الثانية» التحول الأبرز


قبل استعار «الحرب الأهلية الجهادية»، كانت «النصرة» واحداً من أكبر مراكز الثّقل بين المجموعات، ليصل بها الحال تالياً إلى حدّ أوحى بأنّها على مشارف التلاشي. انسحاب «النصرة» من دير الزور، والحسكة، مثّل نقطة فارقةً في مسيرتها. وكان من المفاجئ أنّها تمكنت في وقت قصير من استعادة توازنها، والعودة بقوّة إلى واجهة المشهد. ويمكن القول إنّها وُلدت من جديد في الشمال السوري على وجه التحديد. ما كان لـ«الولادة الثانية» أن تتم من دون دعم تركيّ كبير. محافظة إدلب، التي احتضنت تلك الولادة باتت لاحقاً أقوى معاقل «النصرة»، ومن المعلوم أن موازين القوى «المُعارضة» في الشمال السوري بشكل عام (وفي إدلب بطبيعة الحال) تُضبَط اعتماداً على البوصلة التركيّة في الدرجة الأولى. إجراء مراجعةٍ لـ«خطاب النصرة» وتغيره ما بين بيان تأسيسها، وبين الراهن سيكونُ كفيلاً بتقديم مؤشرات على تطورات العلاقة بينها وبين النظام الأردوغاني. ففيما اشتمل بيان التأسيس على مهاجمة واضحة وصريحة لأنقرة، اختفى هذا التوجه من أحاديث «قادة النصرة وشرعييها» بعد «الولادة الثانية». في الوقت ذاته، دخلت علاقة معظم المجموعات المسلّحة بـ«النصرة» مرحلة جديدة، تراوح بين الحذر والتوجس، وبين العداء المُعلن. عوامل كثيرة أسهمت في تلك التحولات، على رأسها حرص كلّ من الجهات الإقليمية والدولية الداعمة على تكريس جماعات محسوبة عليها، علاوةً على بروز مؤشرات كثيرة على أن «النصرة» تُخطط لإعلان «إمارة الشام»، وعلى رأسها تسريب التسجيل الشهير لزعيمها أبو محمد الجولاني الذي «بشّر» فيه بأن «الأوان قد آن لإقامة إمارة إسلامية على أرض الشام. نطبّق حدود الله عز وجل، ونطبّق شرعه بكل ما تقتضيه الكلمة من معنى» (الأخبار/ العدد 2342).
من «ثوّار سوريا» إلى «حزم»: استراتيجيّة مُعلنة
ذريعة «حرب المفسدين» تحولت إلى شعار المرحلة لدى «النصرة». أبرز ضحاياها كانتا «جبهة ثوار سوريا» و«حركة حزم» اللتين كانتا تحظيان برعاية أميركية وخليجية مباشرة. وبعيداً من كل ما يُروَّج بالتزامن مع كل معركة فتَحتها من هذا النوع، يُمكن الوقوف على الدوافع الحقيقية لهذه المعارك في خطاب زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني. الأخير كانَ قد رسم ملامح المرحلة الراهنة منذ لقائه الصوتي مع مؤسسة «المنارة البيضاء»، الذي بُثّ في تشرين الثاني الماضي.
وفيه اعتبر الجولاني بوضوح أنّ «المعارضة المعتدلة» هي في حقيقة الأمر «مجموعات عميلة للغرب». وأكّد العزم على الوقوف في وجه كل من «يحاول أن يكون أداة للغرب لمواجهة المشروع الإسلامي...». الجولاني تبنّى حينها لهجةً مماثلة للهجة البيان الذي أصدرته «جبهته» أخيراً حول اتخاذها قراراً بـ«إنهاء حركة حزم»، ففي معرض حديثه عن المعارك التي شُنّت ضد «جبهة ثوار سوريا» قال حينها: «اتخذنا قراراً بأن تلغى جبهة ثوار سوريا وخاصة في المناطق الشمالية...».


«النصرة» و«الشاميّة» إلى أين؟

يبدو ذهاب العلاقة بين الطرفين نحو الاقتتال نتيجةً مُرجّحة متى دقّت الساعة الإقليميّة. ولا يحتاج الأمر إلى مسوّغات كثيرةٍ لإشعال حرب مماثلة في ظل توجس كلّ من الطرفين من نظيره. الجولاني كانَ قد قال في الحوار المذكور أعلاه ما معناه أن أيّ مجموعةٍ تحظى بدعم غربي هي هدفٌ محتمل لجبهته. وإذا كانت «الشاميّة» قد سكتت عن تصفية «حزم» بإيعاز خارجي، فليس بالضرورة أن يتكرّر ردّ الفعل ذاته حالَ استهداف أحد مكوّناتها. على النحو ذاته، فإن علاقة «النصرة» بـ«الجبهة الإسلاميّة»، وعلى وجه الخصوص «حركة أحرار الشام» و«ألوية صقور الشام» في الواقع ليست مستقرّة. أسباب الاحتراب موجودة، لكنّ إشعال الفتيل فعلٌ خارجيّ لم يحن وقته بعد. ومن المفيد التذكير بأنّ «النصرة» كانت قد أكّدت مشاركة المجموعتين المذكورتين لها في تصفية «ثوار سوريا» قبل أن تنفيا (الأحرار والصقور) ذلك. ليشرح الجولاني أنّ «أغلب الفصائل في الشمال كانت تطلب منّا إنهاء جماعة (قائد «جبهة ثوار سوريا» جمال) معروف. (...) بعض الفصائل كانت تشجب وتستنكر في الإعلام، لكنهم على أرض الواقع يطالبوننا بذلك. ومنهم من يقول إنهم مضطرون لهذه المواقف بسبب الضغط الأميركي».
ويبدو من المرجَّح أن حرباً جديدةً بين المجموعات المسلّحة ستندلع في وقت يصعُب التنبؤ به، لكنّه لن يكونَ أبعد من أشهر. حرب يكون طرفها الأول «النصرة»، مع ترجيح وقوف باقي المجموعات «القاعديّة» في صفها، وعلى رأسها «جبهة أنصار الدين». بينما يُرجح وقوف «حركة أحرار الشام» في الضفة الأخرى، رغم أن الطرفين كانا في وقت من الأوقات بمثابة فصيل واحد، لكنّ ذلك تغيّر منذ تصفية قيادة «الأحرار» السابقة.




ما هي دوافع «الرّعاة»؟

يبدو ملحّاً التساؤل عن أهداف الرعاة الإقليميين والدوليين في التغاضي عن تصفية «النصرة» لاثنتين من أبرز «المجموعات المعتدلة». القبول بأن هذه التصفية تمّت من دون ضوء أخضر من الرعاة (ولو لم يكن مُعلناً ومباشراً) يتنافى مع كل البديهيّات، حتى في حال التسليم بأن «الجبهة» غير معنيّة بـ«أضواء الآخرين»، وفقاً لما أكده غيرُ مصدر مرتبط بها لـ«الأخبار». وبات معروفاً أنّ «الجبهة الشاميّة» (إخوانية الهوى) قد استبقت آخر فصول الحرب بين «النصرة» و«حزم» بإصدار بيان كان بمثابة رفع الغطاء عن الأخيرة. ويبدو أن الأتراك يخططون لاستثمار «النصرة» في مرحلة لاحقة على النهج ذاته، ومع الأخذ في الاعتبار أن التضحية بـ«حركة حزم» لا تُعتبر خسارة كبيرة، فعلى الرغم من وجود نفوذ تركي على الحركة البائدة، غير أنه لم يكن نفوذاً مُطلقاً، بل مُتقاسَماً مع القطريين والأميركيين. فيما كانت «ثوار سوريا» محسوبةً في الدرجة الأولى على السعوديين. أما النفوذ التركي على «الجبهة الشاميّة»، فهو شبه مُطلق. ورغم وجود صلات جيدة بين الأخيرة وبين الأميركيين، فإن معلومات «الأخبار» تؤكد أن «اللاعب التركي هو عرّاب هذه العلاقات».