دمشق | كان، ولا يزال، الحصول على بيت في سوريا هاجس يراود مئات الآلاف من الذين وجدوا في شركات الاستثمار العقاري، التي تقبل بتقسيط ثمن البيت على دفعات، الطريق لتحقيق حلمهم في تأمين المسكن، بعدما وصلت أسعار البيوت، خلال العقدين الماضيين، إلى أرقام خيالية يعجز أي شاب عن احتمالها. ورغم معرفتهم بأن هذه الطريق تحمل الكثير من المغامرة نتيجة التجارب غير المشجعة، يفضّل شباب كثر الركون إلى وعود وردية ترسمها تلك الشركات إلى حين الاكتتاب فيها، قبل أن يبدأ "مسلسل الادعاءات والتهرب".
أتت الحرب في البلاد لتضاعف مشاكل المكتتبين، وتسهّل تهرب الشركات من تنفيذ وعودها. فبعد أن كانت مجمل الوعود تتعلق بعدم قدرة الشركات على تأمين الأراضي، وعدم وجود الأموال، باتت اليوم تتعلق بتوقف المشاريع بسبب الأحداث، ووقوع الأراضي المخصصة للبناء في الأرياف، ومغادرة المسؤولين عن هذه الشركات وعشرات آلاف المكتتبين فيها خارج الحدود، ليكون السؤال ماذا عن مصير ملايين الليرات التي دفعها المكتتبون؟ خاصة أنهم لم يتسلموا البيوت الموعودة، ولا هم قادرون اليوم على استعادة أموالهم.
قصص كثيرة وتجارب مريرة يرويها من اكتتب على شقق سكنية في هذه الشركات، ومن بينهم الشاب فادي نجلا الذي اكتتب في إحداها، وكان عرضة للاحتيال بعد أن سحبت منه مبالغ مالية تقارب مليون ليرة سورية، منذ عام 2007، ليكتشف لاحقاً أنها غير مسجلة، ولا تملك رقم حساب في المصرف العقاري. وعندما حاول التحرك، مع غيره من المكتتبين، لاذ رئيس مجلس إدارة الشركة بالفرار إلى لبنان. ورغم الاحتيال الذي تعرض له فادي، لم يمنعه ذلك من الاكتتاب في جمعية يرى أنها "تملك المصداقية". فهي تملك، بحسب قوله، "أرقام حسابات نظامية"، لكن هذه الجمعية أيضاً أوقفت عملها مع بدء الحرب، واتصلت به لتخبره بأن عليه الانتظار، أو نقل اكتتابه إلى مشروع آخر في منطقة ثانية في ريف دمشق. تجربة أخرى ترويها لـ"الأخبار" السيدة مها التي حصلت على تنازل من والدها عن رقم اكتتابه في جمعية سكنية عاملة في السويداء، كان قد اكتتب فيها منذ سنوات. فهي تتابع تسديد ما يترتب عليها من أقساط مالية، رغم توقعها عدم تسلمها الشقة، وأن تضطر في النهاية إلى أن تتنازل عنها لابنتها.
وجود بعض الجمعيات التعاونية، التي لا تزال تعمل حتى اليوم، لا يعني أن هناك شركات للاستثمار العقاري، كما طرحت نفسها سابقاً في السوق السورية، حيث لم يعد لها أي وجود، كما أنها بعيدة عن تلك التسمية. فهي "عبارة عن مجموعة من متعهدي البناء وملاك الأراضي على مستوى ضعيف جداً"، وفق الباحث في الاقتصاد العقاري الدكتور عمار يوسف، الذي يوضح في حديث إلى "الأخبار" أن "غالبية هذه الشركات التي حصلت على تراخيص، كانت تقصد، من حيث النتيجة، جمع الأموال من المواطنين، وبيعهم الأحلام من دون أي خطوة عملية. والدليل على ذلك أنه لم يتمّ، على أرض الواقع، إنجاز أي مشروع سكني من المشاريع التي حاولت الشركات العقارية تسويقها، إلا النزر اليسير، بما لا يشكل أي تأثير على الخارطة العقارية السورية". ولا يرى يوسف، الذي أعدّ قبل فترة دراسة عن واقع الجمعيات السكنية في سوريا كشفت أن أموال أكثر من 600 ألف مكتتب فيها باتت في مهب الريح، أن الحرب الدائرة في البلاد أثرت بشكل كبير في هذه الشركات، لأنها في الأصل "ولدت ميتة" وكان الهدف منها الاحتيال. ويرى يوسف أن الأزمة أتت مثل "طوق الفرج" لتلك الشركات كي تعلق عليها أخطاءها، وأن ما تقدمه اليوم من ذرائع لتوقفها عن العمل، من حيث عدم الأمان في منطقة عمل مشاريعها أو ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق أو العقوبات الاقتصادية التي طالت القطاعات الاقتصادية، ما هي إلا مبررات غير مقبولة.
وعلى الرغم من كون تلك الشركات والجمعيات خاضعة لرقابة الدولة، غير أنّ ذلك غير كاف لاسترجاع الأموال المدفوعة، الذي يعتبر أمراً غاية في الصعوبة، نتيجة الازدواجية في التعامل، بحسب ما يوضح يوسف: "لا يمكن بأي حال للمكتتب استرجاع أمواله من دون أن يأتي بشخص آخر يكتتب مكانه"، معبّراً عن أسفه لاستمرار الحكومة في الاعتماد على تلك الشركات في خطط إنجاز الخطط الإسكانية، رغم كل التجارب التي أثبتت أنها تقوم على تسوّل الأراضي من الحكومة، وعدم وجود مجالس إدارة.
وفي هذا السياق، يؤكد مصدر رسمي لـ"الأخبار" أن الحكومة "لحظت كل تلك النقاط والمشاكل، وبدأت تشرف مباشرة على تنفيذ المناطق السكنية ضمن المهل المحددة، والتي بدأت بمنطقتي تنظيم جنوب شرق المزة، وتنظيم جنوب المتحلق الجنوبي". ويرى المصدر أنه "رغم الواقع المظلم الذي خلفته شركات الاستثمار العقاري في ساحة العقارات السورية، غير أنّ ثمّة فسحة للأمل ستتسع مع بدء مرحلة إعادة الإعمار، التي ستكون نواتها تنظيم مناطق المخالفات الجماعية، ودخول شركات استثمار كبيرة قادرة على الإنجاز" ليكون الحلم الذي راود جميع السوريين بالحصول على مسكن أمراً واقعاً مع وضع الحرب أوزارها. عودة إلى النقطة ذاتها إذاً: الحياة مؤجلة إلى ما بعد الحرب.