دمشق | يجرى الحديث في سوريا عن منح قروض تشغيلية، قصيرة الأجل، للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والحرفية، في محاولة لدعم الإنتاج المحلي في ظل الظروف المالية التي يعانيها التاجر والمستهلك. الدولة تدرس المشروع، بحسب ما قالته وزارة المالية، لكن ذلك لن يفي بالغرض طالما تواجه المواطن السوري معضلات تأمين الطاقة البديلة لليد العاملة البشرية، أو للآلات.
"مكنة" خياطة واحدة تديرها أم فتون (50 سنة) في جرمانا. تأتيها قطع "الحرامات" مع الرسوم المطلوبة، توزعها على بعض نسوة الحارة ليعملن على إضافة ألوان وخيوط بحسب الطلب. تكلفة أقل، مع فقدان خطوط الإنتاج الآلية، بسبب الحرب. "اعتمدتُ على العمل اليدوي أكثر لأن الكهرباء هنا كالأعياد، غيابها طويل، وحضورها نادر"، تروي أم فتون لـ "الأخبار". تجدها مشغولة على ضوء الشموع بالنظرة الأخيرة على القطع التي جلبها ابنها للتو من نساء الحارة. "لم أسمع بمنح الدولة المالية، وأعتقد أنها تستوجب شروطاً لا تحققها مصلحتي. لدي آلة واحدة، وأعتمد على يد عاملة في أكثر من منزل" تضيف.
من جهتها، تعبّر هالة، الفتاة الجامعية، عن مللها من وعود الدولة بتشغيل الشباب، قبل الحرب وحتى الآن. هي تقيم مع أهلها في منطقة الدويلعة، وتعمل لدى محال لبيع الثياب النسائية الشعبية، بعد الظهر. وفي أيام العطل، تعمل في تعليب المؤونة، وتثليجها لمصلحة عدة محال بيع غذائيات. وتقدم خدمات الطبخ لمطعم بسيط في ذات المنطقة. "القروض الممنوحة التي تحكي عنها الدولة، سوف يستحقها أصحاب الورش الصناعية، لكن ما من منح فردية للطبخ أو الخياطة المنزلية.

القروض الممنوحة سوف يستحقها أصحاب الورش الصناعية، لكن ما من منح فردية للطبخ أو للخياطة المنزلية

لذلك نعمل بأسعار زهيدة ولا توجد أي حماية قانونية"، تقول الفتاة العشرينية. تؤكد أن "سوء الأوضاع المعيشية كان قبل الأزمة مزدهراً أيضاً، لأن التجار الكبار طالبوا بإيقاف معظم المشاريع الصغيرة، كالورش الحرفية". ففي الحي الذي تقطنه كان هناك أكثر من ثلاث ورش كبيرة (خياطة، "كوي"، وتعليب شوكولا). كانت مصدر رزق يسد حاجات أكثر من ثلاثين أسرة، وكلها حوربت بطرق مختلفة كي تغلق.
في ضفة أخرى نرى خطوط الإنتاج البسيطة تتجسد في مجموعة من النساء اللواتي يعملن في شك الصوف لتوزيعه على بعض محال سوق الحمدية شتاءً. يقول سامر محي الدين، موزّع جملة: "أتعامل مع نحو 30 سيدة في مناطق مختلفة، أؤمن لهن المادة الأولية للحياكة، ولديهن أدوات بسيطة تنتج قطع ثياب صوفية يدوية، تباع بأضعاف التكلفة". تحصل كل امرأة على نسبة من الأرباح، لكن تجار السوق "حيتان، ولا يقدرون التعب والحاجة" يضيف.
حال الكهرباء لا يتماشى مع وضع أبو معتصم، في حي نهرعيشة. فصاحب المكان الذي استأجر منه ثلاث غرف للمكنات، يقاسمه الربح، حتى 25%، مقابل أجرة شهرية تصل إلى عشرة آلاف ليرة. خمسة آلات تريكو تنتج يومياً حوالي مئة كنزة دون ماركة، تكلف الواحدة منها 250 ليرة، تصدّر للداخل فقط، وتباع للتجار جملةً بقيمة 600 ليرة، لتصل إلى المستهلك في الأسواق بين، 1500 و3000 ليرة. "أعتقد أن القروض المالية المتوقع إنجازها يجب أن توجه لمصروف وقود مولدات الكهرباء بالنسبة لنا كصغار الكسبة" يقول أبو معتصم في حديثه لـ "الأخبار".
أبو نزار، في صحنايا بريف دمشق، يقطن في قبو من غرفتين. تأتيه الأقمشة من صاحب معمل ضخم يقع بالقرب من باب شرقي، لكنه يفتقد اليد العاملة خوفاً من الوضع الامني للمنطقة. يعمل أبو نزار مع صديق له في ذاك القبو. يستخدمان أربع آلات خياطة (حبكة ودرزة) وطاولة قص متواضعة. تتنوع مشاغله (كنزات، عباءات، ثياب ولادية) رغم أن الكهرباء لم تكن متوافرة سوى ما بين ساعتين وست ساعات يومياً. عمله لم يستمر لأكثر من ثلاث سنوات. أغلق الورشة بعدما اشتكى الجيران من صوت الآلات، وسُجِن في الصيف الماضي لمدة شهر. وبعدها انتقل أبو نزار إلى معمل باب شرقي، ليعمل وحده: "طوال عمري كنت صانعاً، وحين قررت أن أصبح معلماً وأفتح عملاً كبيراً لي، جاء كل شيء عكس طموحي. أنا اليوم صانع في الثانية والأربعين من العمر، في معمل يفتقد اليد العاملة والمازوت أحياناً كثيرة". كانت أجرة ورشته في صحنايا 25 ألف ليرة، ودخله لا يتجاوز 35 ألف ليرة. جمع الرجل مكناته، وأودعها في مستودع منزله في حي القاعة بدمشق. أغلق الورشة مقابل راتب شهري يصل لأربعين ألف ليرة، وبدوام اثني عشرة ساعة.
من المواد الغذائية والمؤونة، إلى الزراعة ومتطلباتها، وصولاً للورش الصغيرة، مشهد دعم الاقتصاد الذاتي يسوده التخبط من جهة، وضعف الليرة من جهة ثانية. وفي سؤالنا لوزارة المالية عن مضمون المشروع، حولتنا مديرة مكتب وزير المالية، إسماعيل إسماعيل، إلى وزارة الاقتصاد التي احتفظت بحقّ الرّد. حاولنا الاتصال فكان الجواب "الأسئلة على المكتب الوزير"..!