لم تنتظر الرايات السوداء طويلاً. ساعاتٌ قليلة بعد خروج مدينة إدلب (شمالي غربي سوريا) عن سيطرة الدولة السورية كانت كافيةً لترفرف راية «تنظيم القاعدة في بلاد الشام» (جبهة النصرة) فوق مبنى المحافظة. في ظلّ هذا الواقع تبدو المدينة (حال ضمان سيطرة مستقرّة للمسلحين) مرشّحة للسير بسرعة أكبر من المتوقع نحو التحوّل إلى «عاصمة الإمارة» التي تُعتبر «حلم النصرة المؤجل».
ولا يُمكن النظر إلى سيطرة المجموعات المسلّحة على المدينة إلّا بوصفها الإنجاز الأبرز لها على امتداد الحرب السّورية (حتى اليوم). ورغم أن بعض المجموعات نفسها سبق أن تشاركت السيطرة على مدينة الرقة (قبل أن يطردها تنظيم داعش منها بعد ستة أشهر)، لكن «إنجاز إدلب» يأتي في وقت من المفترض فيه أن الجيش السوري قد استعاد المبادرة على الأرض، خلافاً لما كانت الحال عليه قبل عامين. لا يعني هذا التسليمَ بأنّ «الإنجاز» يصلحُ بالضرورة ليكونَ منعطفاً حادّاً في الحرب، لكنّ التقليل من أهمية الخطوةِ يُعتبر ضرباً من العبث. فعلاوة على الدفع المعنوي الكبير الذي حظيت به المجموعات، ثمّة مُعطيات كثيرةٌ أُخرى ينبغي أخذها في عين الاعتبار، منها ما هو استراتيجي بالمعنى العسكري، ومنها ما يتعلّق برمزية انسلاخ مركز محافظةٍ ثانٍ عن سيادة الدولة السورية.
جبهة النصرة وحلفاؤها، المنضوون في «غرفة عمليات جيش الفتح»، كانوا قد سيطروا على إدلب (وهي مركز المحافظة) بعد معارك استمرت أربعة أيام فحسب، مهّدوا لها بقصف عنيف على أحياء المدينة طوال 5 أيام. غموضٌ كبير أحاط معارك اليوم الأخير، في ظل انقطاع الاتصالات عبر الشبكات السورية، واقتصار المعلومات الواردة عنها على مصادر المسلّحين. وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن السلطات السورية كانت قد هيّأت نفسها مسبقاً لاحتمال خروج المدينة عن سيطرتها، حيث تمّ نقل عدد من الإدارات المدنيّة المهمّة إلى خارجها، ما يعني بطبيعة الحال أن الانسحاب العسكري كان موضوعاً على قائمة الخيارات، خاصة أن مهاجمة إدلب لم تكن حدثاً مباغتاً، فمحاولات اقتحام المدينة قديمة ومتكررة، وإنشاء «جيش الفتح» اتخذ من «تحرير إدلب» هدفاً مُعلناً له. «الجيش» المذكور هو في واقع الأمر «غرفة عمليات عسكرية» ضمّت مجموعات عدّة تغلب عليها الصبغة «الجهادية»، أبرزها «جبهة النصرة» و«تنظيم جند الأقصى» (التابعان علناً لتنظيم القاعدة)، و«حركة أحرار الشام الإسلامية» التي تدور في المدار ذاته (من دون إعلان)، علاوة على مجموعات أخرى تحمل إيديولوجيات مشابهة مثل «جيش السنّة»، «فيلق الشام»، «لواء الحق»، و«أجناد الشام». وإذا كانت عقابيل معركة إدلب مفتوحةً على كل الاحتمالات في ضوء إصرار وسائل الإعلام السوريّة الرسميّة على توصيف ما حدث بـ«عملية إعادة تجميع جنوب مدينة إدلب استعداداً لمواجهة آلاف الإرهابيين المتدفقين من تركيا»، فإنّ انصرامَ 36 ساعة من دون مبادرة الجيش إلى تحرك مضاد هو أمرٌ يستدعي إلى الذهن خروج مدينة الرّقّة عن السيطرة قبل عامين وشهر واحد، (الرقة كانت قد خرجت عن سيطرة الدولة السورية في 5 آذار 2013، وانفرد داعش بها في أيلول من العام ذاته). ومن المهم التّذكير بأن التصريحات السورية الرسمية دارَت حينَها في الفلك نفسه. ورغم أن التحركات العسكرية تبقى مرهونة برؤى القائمين عليها، وباعتبارات قد تختلف بين جبهة وأخرى، لكن المعروف أنّ عملية الدّفاع غالباً ما تكون أسهل من الانسحاب وإعادة شنّ هجومٍ مُضاد، خاصّة في ظل واقع ميداني شبيه لواقع محافظة إدلب التي يقعُ معظمُها تحت سيطرة المسلّحين، مع خطوط إمداد مفتوحةٍ، سواء من معاقل المجموعات في الريف أو عبر الحدود التركيّة. ثلاثة مصادر عسكرية سورية تحفّظت على الإدلاء بأي معلومة حول الوضع في إدلب، واكتفت المصادر (كلّ على حدة) بتأكيدها لـ«الأخبار» ما مفادُه أنّ «المعارك لم تنتهِ، وإن توقفت قليلاً». في المقابل، تقاطعت معظم التصريحات المنقولةً عن مصادر «جيش الفتح» والمنقولة عبر صفحات ومواقع معارضة و«جهادية» على أنّ «العملية مستمرّة حتى بسط السيطرة على محافظة إدلب بكاملها». ومن المُرجّح أن تحاول المجموعات التقدّم، بدءاً من معسكري المسطومة ومعمل القرميد. كذلك تمكن الإفادة من «إنجاز» إدلب للتوسع في مسارين مجاورين، الأول محاولة تعزيز مواقع المسلحين في ريف حلب الغربي، ومحاولة استغلال ذلك لإحباط محاولات الجيش السوري إحكام «طوق حلب» وفك حصار نبّل والزهراء. أما المسار الثاني فمحاولة شنّ عمليات نحو ريف حماة الشمالي، فيما يُعتبر التوجه غرباً (نحو اللاذقية) مساراً صعباً بسبب سيطرة الجيش السوري على جسر الشغور، وإمكانية استجلابه إمدادات متواصلة عبرها. رغم ذلك، أعلن يوم السبت عن تشكيل «غرفة عمليات مشتركة في الريف الجنوبي لمدينة جسر الشغور في ريف إدلب». ووفقاً لبيان التشكيل الذي تداوله ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تشارك في «الغرفة» كلٌّ من «ألوية الفرقان» و«ألوية أنصار الشام». في الوقت ذاته، سارعت وجوه «جهاديّة» وأخرى معارضة إلى تقديم «نصائح» حول «آلية إدارة مدينة إدلب المحررة». وعكست «النصائح» مخاوف من أن تؤدي السيطرة على المدينة إلى تفجير صراع على النفوذ بين المجموعات، وهو أمرٌ واردٌ في ظل وجود تسابق خفيّ بين عددٍ منها (لا سيّما بين النصرة وأحرار الشام) على بسط وتوسيع النفوذ في مناطق محافظة إدلب. ويرى أصحاب هذه المخاوف في تجربة الرّقّة درساً تنبغي الاستفادة منه للحؤول دون تكرار المشهد في إدلب. وبدا لافتاً أنّ وسائل إعلام قطريّة كثّفت مساء أمس ضخّ أخبار تتحدّث عن «التجهيز لضرب إدلب بالسكود والكلور»، في إطار «عملية كبيرة يقودها كبار ضباط الجيش»، الأمر الذي تلقّفته المجموعات المسلحة وهدّدت بقصف بلدتي كفريا والفوعا في حال حدوثه. وعلى صعيد متصل، تحدثت مصادر موالية عن «حشود للجيش السوري والقوات الرديفة استعداداً لشن عملية عسكرية مضادة بغية استعادة السيطرة على إدلب».

مناطق سيطرة الجيش السوري الحاليّة

رغم خروج مركز المحافظة عن سيطرته، ما زال الجيش السوري محتفظاً بعدد من التمركزات المهمة في إدلب. يأتي على رأسها مطار أبو الظهور العسكري (الريف الجنوبي الشرقي)، إضافة إلى معسكرَي المسطومة (حوالى 7 كلم جنوب مدينة إدلب)، ومعمل القرميد (حوالى 10 كلم جنوب شرق المدينة). ويحظى الأخير بأهمية استراتيجية تتمثل في تموضعه على هضبة يصعب اقتحامها، إضافة إلى قربه من خطوط الإمداد حيث يُشرف على الطريق الدولي بين اللاذقية وإدلب. كذلك، يسيطر الجيش على مدينة أريحا (الريف الجنوبي الغربي)، وجسر الشغور (الريف الغربي لإدلب، 4 كلم شمال سهل الغاب، وتتاخم السفوح الشرقية لجبال اللاذقية)، إضافة إلى بلدتي كفريا والفوعة في الريف الشمالي.

إدلب جغرافيّاً

تأتي محافظة إدلب في المرتبة الثامنة بين المحافظات السورية من حيث المساحة. تمتدّ على حوالي 6100 كلم2. تتاخم محافظة إدلب ثلاث محافظات أخرى، هي حلب شرقاً، حماة جنوباً، واللاذقية غرباً. يحدّ المحافظة من الشمال لواء إسكندرون، وترتبط بالحدود السياسية مع تركيا عبر معبر باب الهوى الحدودي. تبسط المجموعات المسلّحة سيطرةً متصلةً بين ريفي إدلب الشرقي وحلب الغربي. ويُعتبر سقوط معسكري الحامدية ووادي الضيف (ريف إدلب الجنوبي) في يد «جبهة النصرة» و«حركة أحرار الشام» في كانون الأول الماضي تغييراً مفصلياً في خريطة السيطرة على المحافظة، ومُمهّداً أساسيّاً للتطورات الراهنة.