لم تكن تلك البزة المرقطة في يوم من ماضي الأيام جزءاً من أحلامي، ولم تنفع تلك الرجاءات الصامتة التي ذرفها والدي في جعلي أتراجع عن قراري. كنت مليئاً بأحلام السفر والهروب من قمح الوطن إلى زؤان الأجانب. مطالعاتي المبكرة جعلتني أندفع، بعماء، عكس كل ما يمت إلى العسكر والعسكرية بصلة.
الشعر أنقذني. كان خالي أبو خليل يقول: "يبدأ الأمر بلبس القبعة، ثم ينتهي بلبس الحذاء". كنت مضاداً للالتزام، لا أستطيع تذكر مواعيد تناول الأدوية، فكيف لي أن أستيقظ يومياً في نفس التوقيت؟ هذا ما أورثني بضع عادات سيئة، مثل الاستحمام في أي وقت، بين السبت و...الجمعة، واستخدام جملة "لا أستطيع أن أعدك"، كثيراً، حتى لو كان السؤال من نوع: "هل ستخلص لي؟". أيضاً هذا الخجل الذي يتملكني الآن وأنا استعرض اختياراتي اللاهية.
لكن هذا لم يفد رفاقي الآخرين، أبناء جيلي، الذين تعلمت معهم لعب الورق والتدخين والتجديف المبتكر في حصة دراسية واحدة، في ثانوية رفيق اسكاف. رفاقي الذين تبادلت معهم صور مجلات الأزياء، وأغلفة أكياس اللانجري الملونة، وأنصاف السجائر المدعوكة. عشرة من المحظوظين، ممن استطاعوا اجتياز معضلة البكالوريا، قدّموا أوراقهم إلى الكليات العسكرية المختلفة، تدفعهم رغبات الأهل، والأمل بالعبور سريعاً إلى أرض الرجولة الفاتنة، آنذاك، وأيضاً الفقر. الفقر الذي كان يتجول كقط ضخم في الأزقة، يغير على علب السردين الفارغة، وبقايا الأرز المطبوخ دوماً بمرقة الدجاج. الفقر الفقير. الفقر القاتل، القذر كجلسة تعذيب طويلة.

توقف هدير محركات
الطائرة وامتلأت الساحة الخارجية للمطار باللباس الأسود

توقف هدير محركات الطائرة، ثم بدأ النحيب المكتوم، وامتلأت الساحة الخارجية للمطار الصغير باللباس الأسود. انتظمت سيارات الاسعاف. توقفت شاحنة صغيرة تحمل أكاليل ورد معدّة على عجل. كل جثمان يحصل على إكليل، كل مجموعة باكية تنال إكليلاً، وليال طويلة من البكاء المرّ. والعائلة المحظوظة هي التي يكتفي القدر بمنحها كأساً مُرّة واحدة تتجرّعها بسرعة ثم تنام على قسمتها الضيزى.
أخذنا حصتنا من الموت اليومي، وسرنا في الموكب رجوعاً نحو المدينة، ثم انفردنا في طريق ضيق يتلوى صعوداً نحو الريف الجبلي المتسع. كان الوقت قبيل منتصف النهار بقليل. الريف أتم مهماته النهارية كلها تقريباً، وبدأت أعمال النسوة المنزلية. أسراب الدجاج الباحثة في المهمل من الأرض عن المهمل من الحبوب. أكوام الحطب المعدّ للتدفئة والطبخ. الجدران المخضرة من أثر مطر كثيف والمعرّشات شبه المزهرة. كان الوقت خريفاً مثالياً للموت، أو كان الخريف موتاً مثالياً للوقت. خرجت النسوة من أعمالهن البيتية ليراقبن الموكب السائر ببطء. أجّلن أشغالهن وتركن الطعام ينضج، أو يحترق، ووقفن يرمين قبضات الأرز القليل أصلاً، وبتلات الزهور المقطوفة حديثاً، والزغاريد التي تنتهي بغصة مجروحة شبيهة بآخ ثقيلة. كنّ يشعرن بالموت المخيم والمار ببطء على القرى. كنّ يرين في الشهيد الذاهب إلى قبره ابناً أو زوجاً أو أخاً. كنّ يتنشقن رائحة عرفنها من قبل، من شهر أو شهرين أو سنة، أو سيرينها بعد شهر أو شهرين أو سنة. المزارعات الصغيرات، ربات المنازل، الجدات شبه العمياوات، الأرامل، جامعات الأغصان اليابسة، ناشرات الغسيل المتهتك، نافضات الغبار، مرمّمات الأمل، كنّ يبكين على أخي وصديقي كأنهن مرضعاته، كأن مواويله في أصواتهن وشاماتهن على رقبته.
وصلنا القرية الصغيرة المنسية في مجاهل الجبال الغاضبة والحزينة. كانت فيروز تقرر الخبطة الهدارة على الأرض المشتعلة. كان صوتها ينسحق مع بكاء الأمهات العديدات ودموعهن الحارقة، صانعاً ذلك المزيج الخارق الذي يجعل الأرواح، في لحظات، خيوط قطن على ثلج ذائب. أغنية صنعت خصيصاً للأمهات السوريات في هذا الوقت، بدقة حائك خيوط الذهب. دقائق وصعد صوت مارسيل خليفة في أجمل الأمهات. يا إلهي، أيّ حزن وجمال وقدسية معاً. لم يكن وعيداً للقتلة ولا رغبة في الانتقام، بل ولا حتى محاولة قرآنية للسلوان. كان اعترافاً بسيطاً لكن مستمراً بحب الحياة وتمجيدها. كان حزناً جميلاً وصبراً أجمل. في أي مكان آخر يتم الاحتفاء بالشهيد على هذا النحو الطهراني؟ في أي مكان آخر، وتحت أي بند يتم تصنيف الدموع الفخورة، المتناقضة، لأم مرتبكة، تبتسم حيناً بفخر، ثم تعود وتنكفئ في الفاجعة؟ كيف نستطيع أن ننسى؟ كيف نستطيع أن نبرأ من هذا الخسران؟
في كل يوم، عند ذهابي إلى العمل وعند عودتي منه، أراه على المصطبة الصغيرة. فايز، ابن حارتي، الذي ذهب إلى الكلية الحربية، بعد غياب سنتين عاد نصفاً. أخذت قذيفة نصفه السفلي، وإحدى عينيه، وتركت الباقي. وها هو الآن يجلس، أو قل، يرتمي على كرسيه المدولب، أمام بيت والده. يراقب العالم المكتمل بنصف نظرة، وربما بربع رغبة في الاستمرار. ألقي عليه تحية كأنها كرة ورق مدعوك، ذلك أني أخجل من بقائي حياً. أخجل من قدميّ اللتين تتحركان بيسر ولهو. أخجل من اعتنائي بنظافة البنطلون والحذاء، ومن تبجّحي بركوب التكسي دائماً. ها هو أمامي، لا يطلب إلا أن يراهما فقط، أن يحس بلحمهما الغض، وعظمهما القاسي. ألقي التحية غاضّاً بصري، ثم أمضي مسرعاً إلى ندمي كأن لديّ أربع أقدام، على الأقل، وحياتين. لكنّه هو الأغزر، والأكثر، بنصف جسد. هو الأسرع في الذهاب إلى الرضا بأقدام مهشّمة، وزوجة هاربة. الأقدر على المسامحة، بعين مغمضة، ولسان متلجلج. يردّ ببشاشة، وبصوت عال: "وين هربان؟ ما حدا رح يسرق مكانك؟".
نصف رجل في أشعة الشمس العمودية، يقود بيد كرسيه المدولب، وبالأخرى يرمي الأمل لذئب تائه.