في بيوت قيد الإنشاء، لا تقي برد الشتاء ولا حرّ الصيف، يجلس عبد الله وعائلته بعد أن اضطر إلى ترك منزله في حلب. بثياب العمل المحملة بأتربة الغربة وعرقها يستقبلك بابتسامة متعبة. يصطحبك لتناول بعض الشاي الساخن، " فالشاي يدفئ القلب"، بحسب تعبيره. في شقة قيد البناء يعيش عبد الله مع أمه وشقيقيه وأبنائه. لا طلاء يغطي جدران الغرف ولا أثاث. "نحن هنا بشكل مؤقت"، يقول عندما يراك تنقّل ناظريك بين الغرف.
عبد الله، هو واحد من العشرات أمثاله، ممن اختارت الحرب منازلهم ساحة لها، فهربوا من سعيرها، واستقروا في اللاذقية. وكان نصيبهم السكن في مشاريع قيد الإنشاء، يعتمدون على خبراتهم في أعمال البناء لإتمام مشاريع بدأت قبل زمن بعيد، وانتظرت سواعدهم المتعبة لتكملها وتمضي. كأن في خلاصهم من الحرب لعنة نزلت بهم. فما إن يُتمّون بناء منزل، حتى يضطروا إلى مغادرته وتسليمه لأصحابه.
وسط مدينة اللاذقية قرب شارع الثورة، تسكن العائلات النازحة، ضمن مجمع سكنيّ غير مكتمل، يُسمى "سكن الشباب" الذي تشرف عليه "مؤسسة الإسكان العسكري" في المدينة الساحليّة.
الطين يكسو طرقات الحيّ ومداخله. الطريق إلى داخل المجمع شاقةٌ بسبب الحفريات الكثيرة وأعمال البناء. أطفال يتراكضون بعضهم خلف بعض، وأصوات ضحكاتهم وبكائهم تملأ المكان.
عند أول المشروع يقف مختار المنطقة، رجل ستيني من حلب. يقول: "هناك ما يقارب 20 عائلة في كل مبنى، وعدد المباني غير المكتملة في المشروع هو 15 مبنى". ويتابع: "غالبية العائلات الموجودة هنا لا تملك القدرة الماليّة على الاستئجار" بسبب الارتفاع الهستيري للأسعار في المنطقة.
يضيف المختار: "هذه المباني تختلف عن باقي أبنية المشروع، فهي بحاجة إلى إكساء، كما يسكنون هنا مجاناً بشرط العمل في المشروع كأجر حدده المشرفون عليه. ومن كان له أب أو أخ متطوع في الجيش يُعفَ من العمل ويُمنَح شقة دون مقابل. أنا مثلاً مسؤول عن الحديد في المشروع مقابل الإقامة في أحد المنازل، بالإضافة إلى مبلغ زهيد قدره 20 ليرة مقابل نقلي لكل كيلو من الحديد". ستحضر مفرداته بأسى: "كنت في حلب أملك معملاً للباطون، لكن لا شيء يبقى على حاله".
السير نحو الداخل يُظهر المزيد من الحفر وتلال التراب. والنظر من الخارج إلى البيوت يكشف أن شبابيكها وأبوابها مؤلفة تارةً من أقمشة وطوراً من نايلون.
تختار أن تدخل أحد البيوت. واسع ويحتوي على عدد لا بأس به من الفُرَش والأغطية، "عندما جاءت العاصفة لم نستطع وضع أي غطاء يسترنا. كل ما ثبتناه، طار!" تقول أم أحمد التي تقيم مع أولادها قبل أن تتابع بحسرة: "كان الشتاء قاسياً هذا العام، وكلما انتهينا من عاصفة، أتتنا أخرى".
بيت "هدى"، منزل أرضي حاله كحال سابقه. أصحابه لا يملكون إلا بعض الأقمشة لوضعها على النوافذ والأبواب. هدى وأفراد عائلتها تأقلموا مع العيش رغم ظروف المكان. "صحيح أنّو بالشتي منموت من البرد وبالصيف منعاني من الحرارة العالية بس المهم في حيطان تسترنا"، تقول هدى وهي زوجة لأحد ضحايا مجزرة "خان العسل" الشهيرة (ريف حلب الغربي)، قبل أن تضيف: "أخي عسكري في الجيش، ولهذا منحونا شقة هنا لنمكث بها إلى حين أن يجهز المشروع"، وتتابع: "عامل الأمان هو الأهم الآن، لا يوجد من يهددنا بالموت أما باقي الأمور فمحلولة. ما حدا بيموت من الجوع والبرد هون".
على عكس ارتياح هدى، يعيش عبد الله حالة من القلق، فعند انتهاء البناء الذي يقطن أحد شققه، سيتحتم عليه تسليم المنزل: "لسا ما بعرف وين بدي روح أنا وعيلتي لازم نسلّم الشقة اللي قاعدين فيها خلال شهر، يعني لازم لاقي شغل بديل وسكن تاني بأسرع وقت".
حالةٌ من القلق الدائم وفوبياً الترحيل، مواجهة المجهول، عاشها ويعيشها قاطنو "سكن الشباب". يخشون النزوح الجديد، الذي سيضاف إلى نزوحهم الأول. اللعنة التي حلّت بهم أول مرة، لا تزال تلاحقهم. فبأيديهم، يُضطرون إلى بناء أسباب رحيلهم الجديد.