«لا صوت يعلو على صوت المعركة»، تبدو هذه الجملة صالحةً للاستخدام في معظم المناطق السوريّة الساخنة، باستثناء محافظة حلب، حيث تحلّ محلّها بجدارة جملة «لا صوت يعلو على صوت التّعفيش». ويمكن القول إنّ معظم (إن لم نقل كل) المناطق الحلبيّة التي زارتها الحرب على امتداد السنوات الماضية تحوّلت لاحقاً إلى مسرح لنشاط استثنائي من محترفي «التعفيش». واكتسب هؤلاء «خبرةً» كبيرةً بفعل الممارسة المستمرّة، وطوّروا وسائلهم إلى درجةٍ تمكّنهم، لا من إفراغ أحياء بأكملها في وقت قياسي فحسب، بل ومن الإسهام في صناعة الظروف المواتية لتفريغ الأحياء من سكّانها تمهيداً لإفراغ بيوتهم من محتوياتها. و«التّعفيش» مصطلحٌ راجَ خلال سنوات الحرب للدّلالة على سرقة البيوت والمصانع والمستودعات وكل ما يمكن سرقته. قبل أن يصل «التعفيش» إلى حلب، كان على أهلها أن يختبروا لسنواتٍ مصطلحاً مُنافساً وهو «التّشويل». ويؤدّي المصطلحان الوظيفة الدّلاليّة ذاتها، لكنّ الفارق أنّ «التّشويل» مُصطلحٌ «مُعارض» رفعت لواءَه مجموعات مسلّحة كثيرةٌ وجدت في الغنى الذي كانت حلب تتسم به فرصةً تاريخيّة لتكديس أموال طائلة عبر سرقة كل ما يخرج عن سيطرة الدولة السوريّة. واشتهر من «قادة» تلك المجموعات عدد من الأسماء «اللّامعة» مثل مؤسّس «لواء شهداء بدر» خالد حيّاني، الذي عُرف بلقب «الملياردير الصّغير» ومؤسّس «لواء أحرار سوريا» أحمد عفش، الذي عُرف بلقب «الملياردير الكبير» (الأخبار، العدد 2175). أمّا «التعفيش» فهو مصطلحٌ «مؤيّد» رفعَت رايته مجموعات ولجان تنشط في مناطق سيطرة الدولة السّورية، وعلى وجه الخصوص في المناطق التي يتم استرجاعُها حديثاً، أو تلك التي تحوّلت إلى خطوط تماس ومناطق اشتباك لفترة قصيرة كما حصل أخيراً في «منيان» ومشروع «3000 شقّة» (في الحمدانيّة) وأجزاء من حلب الجديدة، وقبلَها في منطقة الرّاموسة الصّناعيّة. وإذا كانت المناطق التي تُسترجع بعد مرور زمن طويل على خروجها عن سيطرة الدولة هي مناطق «متوسطة الغنائم» لأنّ المجموعات المعارضة «اغتنمت» ما تيسّر لها في خلال سيطرتها، فالأمر مختلفٌ لدى الحديث عن مناطق خلَت من سكّانها بسبب تحوّلها فجأة إلى مناطق اشتباك، ولم تخرج فعليّاً عن سيطرة الدولة السورية.
تبدو مكافحة «حيتان التعفيش» أمراً أكبر من طاقة دوريّة المحافظة

وتعيش حلب خلال الأسبوعين الأخيرين فترة «تعفيش» ذهبيّة جديدة، على وقع المعارك التي اندلعَت في أجزاء من حيّي حلب الجديدة والحمدانيّة خصوصاً. «الله وكيلك ما تركنا البيت غير 16 ساعة، رجعنا لقيناه عالحديدة»، تقول أم ابراهيم التي تسكن في حلب الجديدة لـ«الأخبار». تشرح السيدة الخمسينيّة «قامت الدنيا حوالينا، صبرنا يومين بعدين شفنا كل الجيران عم ينزحوا، خفنا وقلنا منطلع كم يوم لتهدا الأوضاع. رحت عند بيت أخي». بقيّة القصة معروفة ومكرورة، عادت ابنتة أم ابراهيم لتتفقّد الأحوال في المنزل وتحضر بعض الأغراض، فلم تجد سوى الجدران. بدوره، يقول أبو محمّد لـ«الأخبار» إنّه كان وعائلته داخل منزلهم في «جمعيّة الجرّارات» (حي حلب الجديدة) وأصوات المعارك العنيفة تحيط بهم حين فوجئوا بكسر باب المنزل واقتحامه «بالأول فكرناهن المسلّحين فاتوا عالمنطقة، طلعوا شبّيحة تاركين العساكر عم تتقتّل وجايين ينهبونا».
وتكرّرت هذه الظاهرة في عدد من المنازل التي آثر سكّانها البقاء فيها رغم المخاطر المحيطة بهم، ويبدو أنّ «أبطال التعفيش» ظنّوها منازل فارغة من سكّانها. ولم تقتصر «غنائم حلب الجديدة» على المنازل، بل نافستها في ذلك عشرات المستودعات الموجودة في المنطقة، وهي مستودعاتٌ اسُتحدثت خلال العامين الأخيرين حيث اختار كثير من التجار استئجار أقبية وصالات في الحي «الآمن» لتخزين بضائعهم (مواد غذائيّة، ألبسة، أوانٍ منزليّة.. إلخ) وبطبيعة الحال، كانت فترة أسبوع من الاشتباكات كافيةً لتفريغها. الحصّة الأكبر كانت من نصيب منازل مشروع «3000 شقة» في حي الحمدانيّة الذي وصلت المعارك الى أطرافه، وأمطرته مجموعات «جيش الفتح» بمئات القذائف والصواريخ ففرّ معظم سكّانه. وعلاوة على ضراوة المعارك، برز عامل آخر أدّى إلى ازدياد نسبة النزوح في «3000 شقة» وهو أنّ قسماً لا بأس به من سكّانه من المستأجِرين الذين سبق لهم أن نزحوا من مناطق أخرى، ما سهّل عليهم اتخاذ قرار المغادرة. «تعوّدنا يا خاي، وين ما رحنا بيلحقونا» يقول الحاج أحمد. وبطبيعة الحال يسهُل على المستأجر أن يغادر منزلاً يستأجره مفروشاً من دون أن يشغل باله بمصير «العفش» على مبدأ «يا روح ما بعدك روح». وبرغم سريان أنباء تفيد بأن محافظة حلب «سيّرت دوريّات لمراقبة وضبط مثل تلك الحالات وإحالة السارقين للجهات العسكرية المختصة»، وأنّها «داهمت سوقاً في منطقة الفيض يُستخدم لبيع المسروقات»، غير أنّ السوق المذكور لا يعدو كونَه منفذاً صغيراً لـ«صغار المعفشّين» يجاورون فيه بسطات يبيع عليها أصحابُها سلعاً مختلفة، منها ما كانوا يستعملونه ثم اضطرّتهم الحاجة إلى بيعه. وتبدو مكافحة «حيتان التعفيش» أمراً أكبر من طاقة دوريّة هنا وأخرى هناك.
وعلى سبيل المثال كان حي الحمدانية في شهر آب الماضي (إبّان اندلاع معارك الراموسة ومشروع «1070» شقّة) قد شهد محاولات من قسم الشرطة للتصدي لظاهرة «التعفيش»، لكنّ إحدى الدوريات كادت تذهب ضحيّة لمجموعة السرقة التي يتسلّح أفرادُها بمختلف أنواع الأسلحة. وكان هؤلاء ونظراؤهم قد لعبوا دوراً في إثارة فزع الناس ودفعهم إلى مغادرة منازلهم عبر بث شائعات عن «قرب تسليم حي الحمدانية بأكمله للمسلّحين». وسرت الشائعات مشافهةً بواسطة أشخاص يُرجّح أنهم «موظّفون» لدى «المُعفّشين» لهذه الغاية. كما أكّدت مصادر عدّة من السكان مشاهدة مجموعات التعفيش وهم يتعمّدون إطلاق الرصاص نحو المباني السكنية وفي الهواء بغية ترويع السكان ودفعهم إلى النزوح. وشهدت الفترة ذاتها إفراغ مصانع وورشٍ صناعيّة في منطقة الراموسة من محتوياتها بعدما أفلح الجيش في استعادتها وقبل وصول أصحابها لتسلّمها. يضحك أبو العبد ويقول لـ«الأخبار» إنّه اشترى محتويات ورشته ومستودعه من منطقة تل شغيب بمبلغ خمسمئة ألف ليرة سوريّة. «وصلت لواحد كبير من جماعة التعفيش هونيك ووصفتلو بضاعتي، وبعد كم ساعة جب لي مسطرة (نموذج) وسأل: هي من بضاعتك؟ اتفقنا عالسعر وحلف مية يمين إنو أقل من هيك ما بتوفّي معو لأنّو بدّو يلمّها من كذا مصدر»!.