إنه يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973. القوات السورية تندفع نحو هضبة الجولان المحتلة، وفي موازاتها تتقدم القوات المصرية نحو سيناء. سرعان ما تهاوت الدفاعات الإسرائيلية، وارتفعت الأعلام السورية على مرتفعات الجولان، ووصلت طلائع الدبابات أطراف القنيطرة المحتلة آنذاك. إلا أن إنشاء جسر جوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل يمدّ الأخيرة بأحدث أنواع الأسلحة والذخائر، إضافة الى التغييرات المفاجئة في الموقف والخطة المصريين، أدى إلى انقلاب الموازين، لتنتهي بذلك المعارك على تلك الجبهة يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول عند الخط الأرجواني (خط وقف إطلاق النار المحدد بعد حرب 1967) في الجزءين الأوسط والجنوبي، وفي الجزء الشمالي تقدّمت القوّات الإسرائيلية 15 كلم شمال هذا الخط، مكوّنة ما عرف بـ«جيب سعسع».
فعلياً، لم تكن هذه سوى نهاية الأعمال العسكرية، لتبدأ حرباً تفاوضية شرسة خاضها الرئيس حافظ الأسد مع إسرائيل بشكل غير مباشر عبر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر.

«فصل القوّات»: اتفاقية قائمة إلى حين

في 15 كانون الأول/ ديسمبر، عُقد اللقاء الأول بين الأسد وكيسنجر في دمشق، وتبعه 13 لقاءً آخر في سياق مفاوضات تعدُّ من الأطول في التاريخ الحديث. وفي قراءة سريعة لها، يظهر جلياً الموقف الصلب للرئيس الأسد حول ضرورة انسحاب إسرائيل من «جيب سعسع» ومدينة القنيطرة، والعودة الى الحدود التي كانت قبل الحرب، أي ما يعرف بالخط الأرجواني. وفي 31 أيار/ مايو 1974، وقّع الطرفان اتفاقية «فصل القوات» أو «فك الاشتباك»، وقد نصّت على وقف كل الأعمال العسكرية على الجبهة السورية، ورسمت خطين جغرافيين (ألفا وبرافو)، بينهما منطقة منزوعة السلاح، وفيها قوة مراقبة فصل القوات التابعة للأمم المتحدة (UNDOF). ومن الخطين تنطلق ثلاث مناطق تصل الى عمق 25 كلم على الجهتين السورية والإسرائيلية. وقد حدّد الاتفاق عديد الوجود العسكري ونوعه، من أفراد ودبابات ومدافع وصواريخ، بشكل يقيّد كلا الطرفين ويمنع حصول أي استفزاز. يرى السوريون أن الرئيس الأسد حقق إنجازاً مهماً في المفاوضات، إذ استطاع استرجاع جيب سعسع ومدينة القنيطرة، وبعض التلال الاستراتيجية في المنطقة المقابلة لجبل الشيخ. «لو لم تسترجع سوريا جيب سعسع والقنيطرة ومحيطها عبر المفاوضات، لما استطاعت استرجاعها عبر الحرب، فالمنطقة معقّدة جغرافياً وتمنح الإسرائيلي أفضلية عسكرية من خلال بعض التلال الاستراتيجيّة الحاكمة»، يقول ضابط سوري رفيع.
إذاً، تم الاتّفاق ونُفّذ، وانتشرت القوات العسكرية على كلا الجهتين حسب الاتفاق. وضمن خطط الجيش في مواجهة إسرائيل في حال نشوب حرب جديدة، أنشأ ما يعرف اليوم «بخندق م. د.»، وهو خندق طويل مُلِئ بألغام أرضية مضادة للمدرعات، يبدأ من كعب جبل الشيخ شمالي القنيطرة، ويمر في منطقة الغوار والبطنة (الكتيبة الثالثة)، ثم ينحدر جنوباً نحو مزارع الأمل ونبع الصخر، لينتهي أمام ما يعرف بـ«التلول الحمر».

سيطرت المجموعات
المسلحة على معظم المنطقة المنزوعة السلاح
وعلى مستوى التلال الاستراتيجية، بنى الجيش «حصناً منيعاً» في «تل الحارة» الاستراتيجي الواقع غرب مدينة الصنمين. ويروي ضابط ميداني في الجبهة الجنوبية لـ«الأخبار» أنّ «تل الحارّة نقطة استراتيجية مهمة، وكانت قيادة الجبهة الجنوبية في الجيش السوري تولي اهتماماً خاصاً به من جهة التجهيز والتحصين». ويضيف: «لقد استقدمت القيادة العسكرية السورية أجهزة تنصّت ورصد روسية إلى التل، وقد زار تلك المواقع مستشارون روس وإيرانيون عدّة مرات في إطار التعاون العسكري قبل الأحداث».

«المنطقة العازلة» باتت شبه مكتملة

كلّ ما ورد أعلاه كان محقّقاً وثابتاً حتى أواخر عام 2011. وكما هو معلوم، فإن الجنوب السوري كان من المناطق الأولى التي سيطر المسلحون على أجزاء واسعة منه (معظم قرى ومدن محافظتي درعا والقنيطرة في غضون عام واحد). بعدها، استعاد الجيش السوري في عمليّات عدّة السيطرة على عدد من المدن والقرى الجنوبية، لا سيّما مدينة درعا. وبنظرة سريعة إلى الخارطة الجنوبية، نكتشف أن المجموعات المسلحة سيطرت على معظم المنطقة المنزوعة السلاح، والتلال الاستراتيجية، كتلال الحارّة والميل والجابية، وتلّ جموع الذي سيطر عليه «داعش» أخيراً. يشرح ضابط رفيع في الجيش السوري لـ«الأخبار» أنّ «سيطرة المسلحين على التلال المواجهة للحدود مع الجولان المحتل، حرمت الجيش من نقاط قوة مهمّة كان يعتمد عليها في مواجهة إسرائيل، إذ كانت لهذه المواقع مهمات عديدة، أهمّها الرصد والتنصّت». ويضيف «اليوم أصبحت الأفضلية المطلقة للإسرائيلي الذي يستخدم مرتفعات جبل الشيخ للتنصّت والمراقبة، من دون أن يراقبه أحد». كذلك فإن «خندق م. د.» لا يزال بغالبيته في مناطق سيطرة الجيش السوري، ولكنه عمليّاً صار يشكّل أوّل خطوط الوجود العسكري السوري في الجبهة الجنوبية مقابل المسلحين ناحية الحدود مع الجولان المحتل. «ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالحرب ثم المفاوضات، استطاعت تحقيقه اليوم عبر المجموعات المسلحة التي وسّعت ــ حسب ما يراه الإسرائيلي ــ المنطقة المنزوعة السلاح الى أكثر من 20 كلم زيادة»، يعلّق مصدر ميداني سوري.
في المقابل، بدا واضحاً استهتار القيادة الإسرائيلية بالاتفاقية، خصوصاً بعد تدهور الأوضاع الأمنية في الجنوب، إذ يقول مصدر عسكري إنّ «الإسرائيليين كانوا يخرقون الاتفاقية في السابق، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك سرّاً، إلا أنهم يخرقونها اليوم على نحو علني، وهم ينصبون المدافع الثقيلة وينشرون الدبابات على طول الحدود تقريباً، كما أنهم يشاركون أحياناً في قصف مواقع الجيش هناك». في شهر شباط الماضي، بثّت القناة الثانية الإسرائيلية مقطع فيديو يظهر توغّل دورية إسرائيلية داخل الأراضي السورية الواقعة تحت سيطرة المسلحين، وقد ظهرت في المقطع عدة قرى سورية حدودية، وسمعت أصوات الاشتباكات القريبة.
يُظهر الإسرائيليون ارتياحاً كبيراً لتراجع وجود الجيش السوري عند الحدود، إذ يرَون أن بقاء المنطقة الحدودية بعمقٍ كافٍ تحت سيطرة المسلحين، يضمن عدم حصول فوضى تؤدي الى أعمال عسكرية أو أمنية تؤثّر على «أمن إسرائيل». ويهم إسرائيل أيضاً أن تضمن سلامة حليفها، النظام الأردني، الطامح إلى إقامة «منطقة آمنة».
في سعيها لتثبيت المعادلة الجديدة في الجنوب السوري ولفرض واقع ميداني جديد، تستغلُّ إسرائيل التحضيرات الدائرة لإنشاء منطقة آمنة هناك؛ فقد وردت معلومات لـ«الأخبار» عن بدء إسرائيل بإنشاء وتجهيز قوّة مسلحة تابعة لها في منطقة القنيطرة («الأخبار»، العدد ٣١٥٥)، أي إنها تنوي إنشاء شريط حدودي على شاكلة الذي أنشأته في جنوب لبنان قبل تحريره، يضمن عدم وصول الجيش السوري أو حلفائه إلى الحدود. وقبل أسابيع، أقدم الجيش الإسرائيلي على قصف موقع كانت قد أخلته قوات الأمم المتحدة (UNDOF) في نبع الفوّار، ويتمركز فيه مقاتلون من «فوج الجولان»، ما أدى الى استشهاد ثلاثة منهم. وقد كشفت مصادر مطّلعة لـ«الأخبار» أن «إسرائيل، وبتنسيق مع الأردن، تضغط على الجيش السوري وحلفائه ناحية الجولان بالتوازي مع ضغط المسلحين من ناحية جنوبي درعا». وأضافت المصادر أن «إسرائيل أبلغت الروس رفضها لوجود أي قوات عسكرية على حدودها، وأنها ستتعامل بحزم وقوّة مع أي تحرك عسكري تعتبره سبباً لإحداث فوضى على الحدود». وترى إسرائيل أن المكاسب التي كانت عاجزة عن تحقيقها سابقاً في ظلّ الاتفاقية أو الواقع الميداني والسياسي، أصبحت متوافرة اليوم في ظل سيطرة المسلحين ــ سواء من الفصائل الجنوبية أو «داعش» ــ على أغلب الحدود السورية ــ الإسرائيلية.
وجدت تل أبيب بديلاً من جنودها لتحقيق أهدافها العسكرية، مستغلّة المساعي الأردنية والأميركية لإقامة «منطقة آمنة» في الجنوب، وفارضة نفسها كشريك أساسي وربما «محرّك»، في أي عملية عسكرية جرت أو ستجري في المنطقة.




انتشار «الاندوف»

انتشرت القوّات الدولية (UNDOF) في النقاط المنصوص عليها في اتفاقية «فصل القوات»، وتوزّعت على طول المنطقة المنزوعة السلاح، وأبرزها في نبع الفوّار، وتل كروم ــ جبا. والتزم الطرف السوري من جهته بالاتفاق، وعمل على توزيع قواته وقواعده على أساس المناطق المحدودة السلاح. وتنتهي هذه المناطق على عمق 25 كلم تقريباً في الأراضي السورية، أي عند خط يمرّ في قرى بيت سابر، إنخل، خربة جلة، وينتهي في الكوكلية على حدود الأردن جنوباً. وانسحبت القوّات الدولية من أغلب نقاطها في المنطقة بعد تعرّض عناصر منها للاختطاف على أيدي المسلحين. وكانت قد تعرّضت سابقاً لاعتداءات عدّة، كإطلاق النار بشكل مباشر، إلا أنّها عادت مؤخّراً إلى بعض المواقع في المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش السوري.