الشمال السوري ربّما كان على موعد مع فصل جديد من فصول الغزو التركي الذي بدأت مجرياتُه في آب الماضي تحت عنوان «درع الفرات» وبذريعة «محاربة الإرهاب». وفيما كان الإرهاب متجسّداً في المرحلة الأولى بتنظيم «داعش»، تختصره أنقرة اليوم بـ«قوات سوريا الديمقراطيّة» الذراع البرية لقوات «التحالف الدولي».


البوصلة التركيّة تشير راهناً إلى المناطق الممتدة من جنوب أعزاز وصولاً إلى كفرنايا مروراً بنقاط استراتيجية مثل عين دقنة وتل رفعت، مع الأخذ في الحسبان تضييق الخناق على عفرين. وسُجّل في خلال اليومين الماضيين تكثيف للقصف التركي على مناطق سيطرة «قسد» في نقاط عدّة، مثل مرعناز، الشيخ عيسى، دارة عزة، قلعة سمعان، أطمة، باب الهوى، جنديرس، وغيرها، فيما اندلعت اشتباكات متقطعة بين الطرفين على تخوم تل رفعت (جنوب أعزاز). كذلك تتالت الأنباء عن وصول تعزيزات عسكريّة تركيّة جديدة إلى ولاية كلّس الحدودية، كما إلى مدينة أعزاز السوريّة. المؤشرات الدالّة على نيّات تركيّة لـ«فعل شيء ما» لا تقتصر على الاستهدافات المكثّفة وعلى إرسال مزيد من التعزيزات إلى نقاط التمركز الأساسية للاحتلال التركي وفصائل «درع الفرات» فحسب، بل ثمّة تصريحاتٌ لافتة صدرت عن أنقرة في خلال الأيام الماضية في ما يبدو تمهيداً إعلاميّاً للخطوة المتوقّعة، وعلى رأسها تأكيد الرئيس رجب طيب أردوغان «استعداد بلاده لعمل جديد في شمال سوريا وإلحاق الرقة ومنبج بمنطقة مسؤوليتها ضماناً لأمن الحدود التركية». ونقلت وسائل إعلام روسية عن أردوغان قوله لصحيفة «إزفيستيا» إن سوريا «تشهد في الوقت الراهن عمليات سلبية، وإذا تمخّض عن هذه العمليات أيّ خطر يتهدّد أمن حدودنا، فسنردّ كما فعلنا خلال عملية (درع الفرات)».
وعلى الرغم من أنّ التصعيد التركي (قصفاً وتصريحات) في ما يخصّ مناطق نفوذ الأكراد في سوريا ليس أمراً جديداً، غير أن مصادر كرديّة سورية أكدت لـ«الأخبار» وجود معلومات تفيد بأن «التهديدات هذه المرة تبدو أكثر جديّة ممّا سبقها». وانعكست «جديّة التهديدات» في كلام مصادر كرديّة عدة تحدثت إليها «الأخبار» أمس، وعلى رأسها المتحدث الرسمي باسم «قسد» طلال سلو الذي قال إن «الأتراك يحشدون قواتهم بالفعل، وقواتنا في المقابل مستعدة للرد المناسب والتصدي لأيّ عدوان، سواء من قبل تركيا أو عملائها» (في إشارة إلى المجموعات السورية المحسوبة على «درع الفرات»). واستبعد المتحدث وجود رابط بين التحركات التركية والتوتر الذي ساد ريف الرقة قبل أقل من أسبوعين بين «قسد» والجيش السوري. وقال المتحدث «هو لم يكن أكثر من توتر عابر دام بضع ساعات، وتمّ تطويقه، ولم يذهب أيّ من الطرفين نحو التصعيد». وكرّر سلو التأكيد أن «التحركات التركية تهدف بطبيعة الحال إلى التشويش على عمليات محاربة الإرهاب التي تخوضها قواتنا على جبهة الرقة». وأضاف: «حررنا حتى الآن ما يزيد على 30% من مدينة الرقة، وقواتنا تواصل معاركها للقضاء على داعش، وهذا إنجاز للمجتمع الدولي بأكمله. لكن هذا الأمر لا يروق الطرف التركي الذي يعلم الجميع أنه الداعم الأساسي لإرهابيي داعش والنصرة». وبدا لافتاً أن سلو عدّ التطورات الراهنة «اختباراً لموسكو وجديّتها»، وأوضح أن «الاتفاقات التي أدّت إلى دخول قوات روسية إلى نقاط عسكرية في عفرين قامت على أساس أن تتولى تلك النقاط مهمة لجم الأتراك، والحيلولة بينهم وبين القيام بأيّ اعتداء». ورأى أن «المُنتظر من القوات الروسية أن تلعب دوراً شبيهاً بما لعبته القوات الأميركية في منبج، حيث وضعت حدّاً للأتراك. وفي حال عدم قيام الروس بهذا الدور، سيكون واضحاً أن موسكو أعطت ضوءاً أخضر لأنقرة». ورغم أن مصادر إعلاميّة كرديّة كانت قد نسبت إلى المبعوث الأميركي الخاص بريت ماكغورك نقله «تطمينات أميركية» حيال التحركات التركية، غير أن هذه التطمينات لم تكن حاضرة في حديث طلال سلو مع «الأخبار». وكانت مصادر إعلامية قد نسبت إلى ماكغورك قوله، في أثناء لقائه أعضاء «المجلس المحلي للرقة»، إنّ «تنفيذ تركيا أيّ هجوم على عفرين أو أيّ منطقة أخرى في شمال سوريا، سيكون بمثابة انقطاع آخر خيوط العلاقات الاميركية ــ التركية». لكن سلو قال لـ«الأخبار» إن «الأميركيين كانوا واضحين منذ بداية تعاوننا معهم، أبلغونا بصراحة أنهم لن يقدموا أيّ دعم لنا في منطقة عفرين ومحيطها».


تتزايد المخاوف من «حصار عفرين» مع الحديث عن قرب دخول قوات تركية إلى إدلب

ويبدو واضحاً الإصرار الأميركي على إدارة دفة العداء بين الأتراك والأكراد بما يخدم مصالح الولايات المتحدة، ويضمن استمرار حاجة الطرفين إليها. وحتى الآن لم تقدم واشنطن لـ«قسد» دعماً حقيقياً في وجه أنقرة، مع الأخذ في الاعتبار أن الدخول الأميركي على خطّ منبج إنّما جاء تالياً للدخول السوري – الروسي، ما يضع الأمر في إطار سباق النفوذ المتصاعد بين موسكو وواشنطن في غير بقعة من سوريا. وفيما جاء «عدم التعويل» على الموقف الأميركي موارباً في حديث سلو، حضر بشكل واضح في كلام السياسي الكردي ريزان حدو؛ وفي حديث من عفرين، قال الأخير لـ«الأخبار» إنّه «لا يمكن في حال من الأحوال الرهان على الأميركي». حدو، القريب من قادة «وحدات حماية الشعب» في المنطقة، أكّد أنّ «الثقة منعدمة بالأميركيين، لا سيّما في موضوع عفرين. نحن نعلم أن هناك مصلحة أميركية في دخول الأتراك إلى المنطقة». ولم يستبعد أن «يضغط الأميركيون على أنقرة لإرجاء الأمر إلى ما بعد إقفال ملف الرقة، لكنهم لن يذهبوا أبعد من ذلك، ولن يحولوا بين الغزاة الأتراك ومحاولتهم تطويق عفرين». وتحضر في الكواليس الكردية مخاوف حقيقية من «مخطط تركي لتطويق عفرين». وتقول مصادر متقاطعة إنّ المخطط التركي يلحظ في المرحلة الأولى أهمية السيطرة على المناطق الممتدة بين أعزاز وعفرين، ما يعني الوصول إلى التخوم الشرقية لمدينة عفرين، ليكتمل بذلك وضع المدينة في قوس حصار من الشرق والشمال (حيث الحدود التركية). وتتزايد المخاوف من هذا المخطط بالتوازي مع تصاعد الحديث عن قرب دخول قوات تركية إلى محافظة إدلب في إطار تفاهمات «مناطق خفض التوتر». وقالت مصادر إعلامية معارضة إن «الجيش التركي يُخطّط لدخول إدلب الأسبوع القادم، وسيبدأ بإنشاء ثلاث قواعد عسكرية له في المدينة وريفها». ووفقاً للمصادر، فإن أنقرة تخطّط لنشر 1500 جندي مع آليات ومدرعات وبالتعاون مع الفصائل المسلحة المنضوية ضمن «درع الفرات». وينظر الأكراد إلى هذه الخطوة بوصفها جزءاً من مخطط «تطويق عفرين»، حيث تتشارك المنطقة خطوط تماس مع ريف إدلب الشرقي. وتذهب مصادر كردية أبعد من عفرين، مؤكدة وجود معلومات عن «خطط تركية هناك لفتح الطريق بين ريف حلب الشمالي وريف حلب الغربي بعد السيطرة على قرى جنوب عفرين وشمال نبّل والزهراء، ما يعني بالتالي عودة الخطر ليحوم حول حلب نفسها». ولم يستبعد مصدران مرتبطان بـ«قسد» أن تُسفر التطورات الراهنة عن نجاح الأتراك في انتزاع السيطرة على عدد من النقاط الاستراتيجية «حتى ولو من دون قتال». وأوضح كلّ من المصدرين على حدة لـ«الأخبار» أنّ «هناك ملامح لضغوطات أميركية قد تُفضي إلى تسليم مناطق مهمة في نهاية المطاف».




الجيش السوري في عفرين؟

كشفت مصادر كرديّة في عفرين عن وصول وحدات من الجيش السوري إلى المنطقة. وأوضح السياسي الكردي ريزان حدو لـ«الأخبار» أن «قوات من الجيش وصلت في خلال اليومين الأخيرين إلى نقاط يبسط الجيش السوري سيطرته عليها منذ أكثر من شهرين في المنطقة نفسها». ووفقاً لحدو، فإنّ «نقاطاً عدة للجيش موجودة في عدد من قرى المنطقة منذ ما يزيد على شهرين، من دون الكشف عن ذلك إعلاميّاً». وعدّد من بين تلك القرى: قسطل جندو، مرعناز، أم حوش، حربل، تل قراح، عين دقنة. وسألت «الأخبار» مصدراً ميدانيّاً سوريّاً رفيعاً عن هذه التفاصيل، فتحفّظ على نفيها أو تأكيدها، واكتفى بالقول إنه «لا غرابة في حدوث ذلك. هذه أراض سوريّة، ومن الطبيعي أن توجد نقاط للجيش فيها إذا قرّرت القيادة ذلك».