ترددت أصداء استعادة مدينة حلب، على يد الجيش السوري وحلفائه، في تل أبيب، بما يتجاوز، أو يشبه، الأصداء التي شهدتها عدد من العواصم الإقليمية والدولية، التي كانت تراهن على صمود الجماعات المسلحة. سادت حالة من الإحباط والقلق برزت معالمها على ألسنة قيادات سياسية، في الحكومة والمعارضة، وأعضاء كنيست من مختلف ألوان القوس السياسي الإسرائيلي: اليمين واليسار، والديني والعلماني، والحكومة والمعارضة، وتكرر التشديد الإسرائيلي على أن «مصلحة إسرائيل في النهاية هي طرد (الرئيس بشار) الأسد والإيرانيين من سوريا».
المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية انضمت، أيضاً، إلى بعض الجوقة الإعلامية العربية والإقليمية، عبر تبني شريحة واسعة من الخبراء والمعلقين، بصورة شبه تامة، سردية الجماعات المسلحة والدول الإقليمية الداعمة لها.
صحيح أن رهانات المؤسسة الإسرائيلية، بشقيها السياسي والأمني، على إسقاط النظام السوري، وخاصة الرئيس الأسد لاستبدال آخر به، يكون معادياً لمحور المقاومة، مرت بمسارات متعرجة صعوداً وهبوطاً، لكن الجديد ما بعد استعادة حلب، أنه لم يعد هناك في الساحة السورية، ما يوازي ثقلها (المدينة) النوعي لدى الجماعات المسلحة. في النتيجة، تبددت الرهانات على إمكانية إعادة قلب مسار الأحداث بالمنسوب الذي كنا نشهده، ومن المؤكد أن لذلك مفاعيله الحاضرة بقوة لدى صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وهو ما أجمله رئيس «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب (الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية أمان) اللواء عاموس يادلين، بالقول: «إسرائيل في مشكلة استراتيجية بعد ما حدث في حلب».

أسقطت استعادة
حلب الرهان على معادلة دولية تقيد محور المقاومة



كذلك تراجع الرهان على مفاعيل الاستنزاف الذي «انحدرت» إليه الآمال الإسرائيلية بعد الإخفاق في إسقاط النظام السوري والرئيس الأسد، بل حضر التخوف، عبر أكثر من تقدير، من أن تصير أطراف محور المقاومة أكثر قدرة على التفرغ لإسرائيل، انطلاقاً من أن تعزيز الأمان الاستراتيجي للدولة السورية، يمنح حزب الله هامشاً إضافياً في التصدي لأي عدوان إسرائيلي واسع.
على خط موازٍ، من الواضح أن النكسة الإسرائيلية من تحرير حلب، شملت أيضاً إسقاط رهانها على تقسيم سوريا ضمن بديل من إخفاق الرهان على إسقاط النظام، وهو ما سبق أن عبّر عنه نتنياهو أمام مؤتمر «دافوس» (21/1/2016) بالقول، إنّ «أفضل نتيجة يمكن الحصول عليها (في سوريا) هي بلقنة هادئة نسبياً... هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه». وكان هذا الموقف قد أتى بعد توصية تقدم بها «الأمن القومي» في دراسة تناولت الواقع السوري (11/10/2015)، وأكدت أن «تقسيم سوريا يتساوق أيضاً مع المصالح الإسرائيلية»، مشددة في الوقت نفسه، على ضرورة ألا تبدو إسرائيل «كمن يقود مطلب تقسيم سوريا في المنظومة الدولية، وإنما التركيز على مصالحها الحيوية».
ومن المعلوم أنه دون مدينة حلب، لا يمكن إمرار مشروع تقسيم سوريا، وبعبارة أخرى، لا يمكن الجماعات المسلحة أن تكرس كياناً موازياً يهدد وجود الدولة السورية، ويسمح بشلها وحلفاءها، أو على الأقل يضيّق هامشهم في المبادرة أو الرد الرادع في مواجهة إسرائيل، لكن في مرحلة ما بعد استعادة حلب، بات النظام أكثر استقراراً بالمعنى الاستراتيجي، ويعني ذلك باللغة الإسرائيلية تعاظم التهديد الذي يشكله محور المقاومة على إسرائيل. في ضوء ذلك، يصير مفهوماً الإصرار المتكرر لدى وزير الأمن الحالي (أفيغدور ليبرمان) على ضرورة أن تشمل أي تسوية إسقاط الأسد وإخراج الإيرانيين من سوريا، وكان السياق نفسه قد شمل تأكيد سلفه (موشيه يعلون) في أكثر من مناسبة، أن «من غير المسموح أن ينتصر محور الشر، الممتد من طهران إلى دمشق وبيروت، في الحرب الدائرة في سوريا» (14/8/2013).
رغم ذلك، يبقى البعد الذي لا يقل (أو أكثر) حضوراً لدى القيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب، هو ما يتصل بالمعادلات الإقليمية والدولية التي أسقطتها استعادة حلب، والأخرى التي ستفرضها، إذ أظهرت التطورات الميدانية في سوريا، منذ انطلاقتها قبل نحو ست سنوات، أن هناك خطوطاً حمراً إقليمية ودولية إزاء الساحة السورية. بتعبير آخر، كان يظلل المعارك العسكرية في الساحة السورية صراع إرادات مع قوى دولية وإقليمية. وبدا واضحاً أن هذا الصراع كان مضبوطاً بمحاولة تجنب أي صدام مباشر بين القوى الخارجية (الداعمة لأطراف الصراع المباشر في الساحة السورية)، أو بين الدولة السورية وإحدى هذه القوى، خاصة المراهنة على الجماعات المسلحة.
في هذا الإطار، تجنبت دول إقليمية مثل تركيا، وغيرها، التدخل العسكري المباشر طوال السنوات التي سبقت التدخل العسكري الروسي المباشر، وتحديداً في المراحل التي تقلصت فيها سيطرة الدولة السورية. عندما كان يمكن ــ نظرياً ــ الحسم العسكري عبر مثل هذا التدخل، والأمر نفسه ينطبق أيضاً، على قوى دولية، في مقدمتها الولايات المتحدة. وتحت هذا السقف، كان الدفع، أو فرض وقائع ميدانية بضرب الجماعات المسلحة واستعادة المناطق التي تسيطر عليها، ينطوي أيضاً على مستوى من فرض إرادات إزاء قوى إقليمية ودولية، خاصة عندما تتجنب هذه الأطراف الخارجية اللجوء إلى خيارات بديلة أكثر صدامية بالمعنى المباشر، لأي سبب من الأسباب.
ومع أن هناك عدداً من المحطات التي شكل كل منها مستوى من فرض الإرادات على القوى الإقليمية والدولية المعادية للدولة السورية، لكن كلاً منها كان قابلاً للاحتواء بفعل وجود خيارات بديلة تتمتع بثقل نوعي، الأمر الذي أوجد حالة من التعادل الاستراتيجي تحكم معادلة الصراع في الساحة السورية. ومن أهم ما استند إليه هذا الثقل المضاد كان وجود عمق جغرافي وديموغرافي وعسكري واسع في شمال سوريا، تحديداً مدينة حلب. من هنا يأتي إصرار الجيش السوري وحلفائه على استعادة المدينة تجسيداً لصراع إرادات مع قوى إقليمية ودولية وجدت نفسها أمام تحدي الخيار البديل. ومعنى ذلك، أنها باتت محشورة ومضطرة إلى اتخاذ قرار حاسم: الانكفاء والتكيف مع الواقع الميداني الجديد الذي يفرضه الجيش السوري وحلفاؤه، أو الصدام المباشر، وعلى الأقل إظهار تصميم حازم وحاسم بفرض خطوط حمر عبر رمي الكرة في ملعب الدولة السورية وحلفائها.
بناءً على ذلك، من أهم ما ترتب على استعادة حلب في وعي صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، ليس الانتصار العسكري على الجماعات المسلحة فقط، بل ــ وهو الأهم ــ أنها كسرت إرادات إقليمية ــ تركية، ودولية ــ أميركية. ويعني ذلك باللغة الإسرائيلية أن ما كانت تراهن عليه الدولة اليهودية من قيود يمكن أن تؤدي إلى تضييق هامش حركة الجيش السوري وحلفائه، قد تقلص بنسبة كبيرة عما كان عليه.
في المقابل، استطاع الجيش السوري وحلفاؤه أن يوسعوا مظلة الأمان الاستراتيجي، التي تشكل خطوة نوعية متقدمة إلى الأمام في توسيع هامش حركتهم في المبادرة، ليس في مواجهة الجماعات المسلحة، بل أيضاً في إطار معادلة الصراع مع إسرائيل. ولا يقدح بهذا المفهوم، الاتهامات التي توجه إلى إدارة باراك أوباما بأنها اختارت الانكفاء عن المواجهة، أو على الأقل إبداء تصميم حازم في فرض خطوط حمر، لأن هذا الخيار هو من جهة سبب لما يليه ويترتب عليه، ومن جهة أخرى تتويج لما قبله من اعتبارات ذاتية وموضوعية، ومن ضمنها الرسائل الإقليمية والدولية التي تنطوي عليها اندفاعة الجيش السوري.
الأكثر أهمية في حسابات القيادة الإسرائيلية أن التصميم الذي أظهره محور المقاومة في الدفاع ضد التهديد الذي تشكله الجماعات التكفيرية، أولى بالترجمة العملية عندما يكون في مواجهة أي محاولة إسرائيلية تهدف إلى التعويض عن انكفاء الآخرين، الإقليميين والدوليين، في خذلان الجماعات المسلحة، خاصة أن من يملك هذه الإرادة في مواجهة قوى إقليمية ودولية، هو بالضرورة أكثر قدرة وجرأة واندفاعاً عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
من هنا، فإن دائرة القراءة الإسرائيلية لاستعادة حلب تتجاوز بعدها الجغرافي على أهميته القصوى. وبعدها العملاني لجهة انتصار الجيش السوري وحلفائه، رغم مؤشراته المدوية، بل أبعاده الوطنية السورية، التي حصّنت الدولة وأسقطت مشروع التقسيم، وهو ما كان قد بقي من رهانات إسرائيلية.
يمكن الجزم، أيضاً، بأن ما يحضر في وعي صناع القرار في تل أبيب، هو السياق الأوسع المتصل بمعادلة الصراع مع أطراف محور المقاومة كافة، من حزب الله إلى الدولة والجيش السوري، إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو ما عبّر عنه باختصار نائب رئيس «أبحاث الأمن القومي»، العميد أودي ديكل (سبق أن تولى رئاسة القسم الاستراتيجي في شعبة تخطيط هيئة أركان الجيش الإسرائيلي)، بالقول إن إسرائيل «تفحص ما يجري في سوريا في السياق الإيراني الأوسع، باعتباره مصدر التهديد الأساسي على إسرائيل، لكونه يملك النيات والقدرات».
وإدراكاً منه لخطورة مفاعيل المستجدات الميدانية في الساحة السورية، دعا ديكل صناع القرار الإسرائيلي إلى إعادة النظر في خيار عدم التدخل العسكري المباشر في سوريا، «لأنهم سيجدون صعوبة في التسليم بوجود إيران أو وكلائها في هضبة الجولان».