اسطنبول | مما لا جدال فيه، أن ما تعرضت له سوريا ما بين عامي 2011 و2015، كان حرباً كونيّة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها. فقد اجتمعت نحو 100 دولة؛ واتفقت فيما بينها لتقديم كافة أنواع الدعم لما لا يقل عن 100 ألف من القتلة (السوريين والأجانب)، لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد؛ مهما كلّفكم وكلّفنا ذلك، وحتى لو تطلب الأمر تدمير سوريا بالكامل.
وكان التآمر العربي والإسلامي جزءاً أساسياً من هذه الحرب الكونيّة التي اعترف رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم، ببعض أسرارها؛ التي لم تعد مخفية على أحد وخاصة السوريين. وكان السؤال الأهم ــ وربما الوحيد ــ بالنسبة للجميع؛ هو كيف صمدت سوريا رئيساً وشعباً ودولةً وجيشاً ضد هذا العدوان الشرس؟ هذا العدوان الذي كاد أن يقضي عليها بالكامل، لولا التدخل الروسي في أيلول 2015، حين كانت الدولة تسيطر على أقل من 25% من مساحة الأراضي السورية. ولم يكتف فلاديمير بوتين بزجّ قواته العسكرية؛ بل راح يخطط بذكاء مثير لمستقبل هذا الحليف الوحيد في الشرق الأوسط. وكان الدعم الروسي مشجعاً للمناضل العظيم السيد حسن نصرالله، وللمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، السيد علي خامنئي، لدعم القوات السورية التي سيعترف التاريخ ببسالتها وقتالها العنيف ضد العدو، الداخلي والخارجي، إذ سجلت أرقاماً قياسية في الاستشهاد البطولي من أجل الوطن.
ومع أواسط 2016 انقلبت الكفة لصالح الدولة السورية، كما اعترف حمد بن جاسم حين قال «الصيدة فلتت». وتحول الرئيس الأسد إلى عنصر أساسي في مجمل الحسابات الإقليمية التي كانت تستهدف سوريا. فتحوّل أعداء سوريا إلى أهداف مكشوفة بعد التغيير المفاجئ في موازين القوى، إثر الهزائم المتلاحقة التي منيت بها «داعش» و«النصرة» والفصائل الأخرى، بسبب تحركات الرئيس بوتين الذي أثبت نجاحه في «جنيف» وبعد ذلك في «أستانا» وأخيراً في «سوتشي». إذ خرج بانتصاره الأكبر، مقنعاً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بضرورة التحرك الثلاثي مع إيران أيضاً، لحل المشكلة السورية؛ مع ضمان وحدة سوريا وسيادتها؛ وهو ما راهن ضده الكثيرون منذ بداية الأزمة. وبات واضحاً أن هذه الوحدة باتت مضمونة من قبل الدول الثلاث، وخاصة تركيا التي اعترف رئيسها بأن وحدة سوريا تعني وحدة تركيا، مشيراً إلى احتمالات مصالحة قريبة بينه وبين الرئيس الأسد؛ الذي تحول أواسط 2011 ــ بين ليلة وضحاها ــ إلى ألد أعداء أردوغان، الذي قال له آنذاك الإخوان المسلمون في سوريا والمنطقة؛ ومعهم رئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو، إن الأسد سوف يسقط خلال أسابيع؛ ومن بعده ستقوم «السلطنة العثمانية» من جديد. وكان هذا الحلم كافياً ليلعب أردوغان الدور الرئيس في كل ما تعرضت له سوريا خلال السنوات الست الماضية. وذلك برغم أن الأسد فتح لأردوغان أبواب سوريا والعالم العربي؛ ودون أي حسابات خفية، إيماناً منه بضرورة إقامة علاقات مميزة مع تركيا وأطراف أخرى؛ تساعده على بناء شرق أوسط جديد، وإلا لما قبل بالحوار مع إسرائيل في عام 2008، وبوساطة من أردوغان المخدوع آنذاك من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت.
هذه باختصار قصة السنوات الست الماضية، والتي تلخّص نضال وصمود الشعب السوري واستبسال قواته المسلحة من أجل الدفاع عن الوطن، دون المبالاة بآلاف القصص عن الفساد والرشوى في مستويات مختلفة من الدولة، والتي كان المواطن يشكو منها، دون أن يبالي بظروف الحرب التي تجعل تلك القصص طبيعية جداً في بلد صغير وفقير كسوريا.
ودون أن يكون واضحاً كيف سيتسنى للرئيس الأسد إقناع المواطن السوري بطبيعة هذه القصص التي شكا منها هو شخصياً، خاصة أن البلاد مقبلة على مرحلة من التعبير عن الإرادة الحقيقية للمواطن السوري بعدما بدأ المسار الديموقراطي من خلال صياغة الدستور الديمقراطي الجديد، والذي سيجرى لاحقاً الاستفتاء عليه ومن بعده الإعلان عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ وبإشراف الامم المتحدة التي ستمنع أي عملية تزوير في صندوق من صناديق الاقتراع التي ستملؤها دولارات «دول معاداة سوريا». وهو ما سيتطلب معركة وطنية جديدة قد تكون أصعب من الانتصار الأخير، المحقق بفضل روسيا وايران وحزب الله ومجموعات حليفة أخرى. وبمعنى آخر، كيف سينجح الرئيس الأسد وطاقمه الحالي في إقناع أكثر من 12 مليون نازح داخلي وخارجي من أصل 23 مليوناً، هم سكان سوريا، بمصداقية النهج النضالي الشريف؛ وعلى حساب كل التضحيات الاقتصادية والمالية المعيشية، خاصة أن هذا الشعب عاش تجربة حزب البعث لأكثر من 50 عاماً، ولن تتردد الأطراف الأخرى في الحديث عن سلبياتها خلال الحملات الانتخابية التي لن تكون سهلة بالنسبة للرئيس الأسد. ويعرف الجميع أن الأسد ما زال محبوباً من حوالى 60 إلى 70 في المئة من الشعب السوري. كما يعرف الجميع أن الأغلبية الساحقة من الشعب تشكو من أداء طاقم الرئيس السياسي والاقتصادي والأمني والاستخباراتي، أي ما يسمى بالدولة العميقة. وهذا ما سيجعل من المعركة المقبلة أكثر صعوبة بالنسبة للرئيس الأسد، الذي إن استطاع صياغة المرحلة المقبلة من النضال السياسي الديموقراطي، فإنه سيجعل من سوريا نموذجاً مثالياً لتجربة ديموقراطية علمانية وطنية قومية، قد تساعد الشعوب العربية ــ وليس الدول ــ في فهم واقعها الصعب. وهذا الفهم بدوره سيدفع هذه الشعوب وخاصة شبابها للاطلاع على التجربة السورية العظيمة وفهمها والتضامن معها، وهو ما يتطلب مقولات عربية قومية حضارية تتفق والمفاهيم الجديدة لعلم النفس والاجتماع. وطالما أن الأغلبية الساحقة لهذا الجيل من الشباب يتواصل مع الآخرين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فهي ستكون الوسيلة الأقوى لنقل المعلومة والمقولة السورية الجديدة لكل أبناء العالم العربي. وهو ما يتطلب من الرئيس الأسد أن يثبت للجميع مثالية العقيدة الوطنية العروبية الجديدة، خاصة أنه انتصر على الإسلام السياسي الإرهابي، ورفع بدلاً عنه شعارات ومقولات جديدة لا تزعج أحداً، وتكفي لتضامن كل أبناء الوطن والأمة. وهو ما يتطلب تفعيل آليات علمية محترفة أثبتت التجارب نجاحها في الدول الحضارية؛ مع التأكيد على المصداقية التي تتطلب الانتقاد الصريح لأي عمل سلبي يعرقل انتصار المعركة الأخيرة التي يسعى ــ ويجب أن يسعى ــ من أجلها الرئيس الأسد. وإلا فإن انتصاره في «سوتشي» أو «جنيف» لا ولن يعني أي شي بالنسبة للشعب السوري؛ الذي قدم ما لم يشهده التاريخ من تضحيات عظيمة من أجل سوريا، التي إذا ما فشلت تجربتها الديموقراطية الجديدة، فإن معركتها الأخيرة لن تكون طويلة الأمد.

لا يمكن العودة بسوريا إلى ما كانت عليه قبل عام
خاصة إذا ما عمل الطاقم الحالي على العودة بسوريا إلى ما كانت عليه قبل 2011 بحجة أنه انتصر على الأعداء، ناسياً أن سوريا لا ولن تكون بعد الآن كما كانت عليه قبل ما يسمى بالربيع العربي. وما على الرئيس الأسد في هذه الحالة إلا أن ينظر للأمور بنظرة جديدة تساعده لعقد حوار مباشر مع الشعب السوري. وما على المثقفين السوريين والعرب إلا أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، متخلين عن النمط التقليدي الذي تعودوا عليه في مناقشة ومعالجة الأزمات التي أثقلت كاهل أدمغتهم وباتت تمنعهم من التفكير بأساليب جديدة. وبمعنى آخر، على هؤلاء المثقفين أن يتعلموا الكثير من تجارب الغرب الذي أطلق للتفكير أجنحته؛ حتى يكون للعقل مطلق الحرية المدعومة بالمعلومة الصحيحة والدقيقة التي بدونها لا ولن تحقق أي معركة أهدافها. فالمعركة المقبلة تحتاج لسواعد وعقول وذكاء الشباب القادر على حسمها لصالح الرئيس الأسد؛ إن كان هو أيضاً منحازاً لهؤلاء الشباب. وعلى الجميع أن يعي جيداً أن من لا يكسب هؤلاء الشباب، يستحيل له أن يكسب المعركة على الأمد الطويل.
ويبقى الدور الأهم في هذه المعركة للإعلام المقاوم الذي عليه أن يتخلى عن نهجه وأدائه التقليدي الفاشل، حتى وإن بدا ناجحاً في وجه الإعلام المعادي القوي بسبب قوته المالية؛ التي يمكن الانتصار عليها بإيجاد أساليب جديدة في النضال الشبابي عبر شبكات التواصل الاجتماعي؛ الأكثر قوة بمادتها التسويقية الناجحة إن وجدت. وبعد أن فقد الشباب العربي أمله في كل شيء، يمكنه أن يتحول إلى أمل جديد بمعركة الرئيس الأسد، بنهجه وأسلوبه وعقيدته وكوادره الجديدة، وإلا لا بد من استنساخ الآلاف من الأسد، وأنا شخصياً واثق بنواياه وإمكاناته في تحقيق الانتصار الأكبر في المعركة الكبرى القادمة بلا محال.