لم يكن المشهد الميداني في سوريا، أمس، على مقاس قرار مجلس الأمن «2401» الذي أقرّ هدنة تستثني تنظيمات «داعش» و«جبهة النصرة» و«القاعدة»، إلى جانب من يرتبط بها من جماعات وأفراد.يظهر، كما جرت العادة منذ معركة حلب عام 2015، أن الميدان وظروفه يحكمان الحراك السياسي والدبلوماسي. ولما وضعت دمشق معركة الغوطة الشرقية بنداً أول على جدول أعمالها، لم يكن أمام واشنطن وحلفائها سوى تسخين مقاعد مجلس الأمن دفعاً نحو «اتفاق تهدئة». وهذا الاتفاق بدوره لم ينسحب على معركة أنقرة في عفرين حيث واصلت قواتها استهداف مواقع «الوحدات» الكردية.

كذلك، فإن قرار الهدنة الذي أُقرّ بعد مفاوضات مضنية حول تفاصيل صياغته، لا يملك في متنه ضمانات لتنفيذ التهدئة أو لمراقبتها، كما أنه لا يقترح آلية لدفع الأطراف التي يفترض أن يشملها وقف إطلاق النار، إلى الالتزام به. ورغم أن الدعم الروسي لمشروع القرار كان مشروطاً بإدخال تعديلات تشمل إدانة مجلس الأمن لاستهداف مدينة دمشق بالقذائف، وسحب المهل الزمنية لإقرار الهدنة، إلا أن إمكانية تطبيق هذا القرار تبقى محل شكّ واسع بالنظر إلى الواقع الميداني.
ويأتي تصعيد الجيش السوري على جبهات الغوطة الشرقية بالتوازي مع الإعلان التركي عن استمرار عملية «غصن الزيتون» في منطقة عفرين، على اعتبار أن القوات التركية تقاتل «إرهابيين»، ليشير إلى أن الميدان لن يشهد انعكاسات ذلك القرار، وعلى العكس، سوف تقود التطورات الميدانية مسار الأحداث خلال الفترة المقبلة. التحرّك في محيط الغوطة، والمعدّ بمعزل عن الهدنة المفترضة، جاء بعد فشل مفاوضات بادرت إليها موسكو، للتوافق مع الفصائل البارزة في الغوطة الشرقية، وتحييد «هيئة تحرير الشام» من المشهد هناك، على أساس ما أقرّ سابقاً باتفاقات تهدئة منفصلة، أقرّت في القاهرة وجنيف. وهو يكرّس إصرار دمشق الذي أبدته في غير مناسبة على الاستمرار في التركيز على «أولوية محاربة الإرهاب»، وهو إصرار مدعوم بموقف روسيا وإيران اللتين ما زالتا حاضرتين في دعم تلك المعارك.
وشهد يوم أمس تحركاً واسعاً للجيش السوري على أربعة محاور رئيسة، على أطراف الجيب المحاصر في غوطة دمشق الشرقية. وتركزت المعارك على جبهات النشابية والريحان وحوش الضواهرة، إلى جانب أطراف مدينتي دوما وحرستا، والجبهة بين عين ترما وحي جوبر. وخلال الساعات الأولى لانطلاق المعارك في محيط النشابية (جنوب شرق)، سيطر الجيش على تلال مكّنته من رصد مساحات واسعة، ما أجبر عناصر الفصائل المسلحة على الانسحاب. وتقدمت قوات الجيش وسط تكثيف للقصف المدفعي على خطوط المسلحين الخلفية من محورين، الأول من تل فرزات والثاني من تل النشابية، في محاولة لعزل منطقة النشابية وحوش الصالحية ومحيطهما. ويعود تركيز الجيش على هذه الجبهة، أي الجزء الجنوبي الشرقي من الغوطة، إلى أن تلك المنطقة تضم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وخالية من كثافة عمرانية كبيرة، وهو ما يتيح قضم مناطق أوسع خلال العمليات، على عكس الحال في غرب الغوطة، حيث تحدّ كثافة الأبنية والأنفاق من إمكانية التحرك بسرعة. ومع اشتعال تلك الجبهات، دخلت فصائل الغوطة جميعهاً المعارك، وذلك رغم ترحيب كلّ من «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن» بإقرار الهدنة. وتمكّنت الفصائل من تدارك هجوم الجيش، وشنّ ضغط معاكس لمنعه من التثبيت في مواقع متقدمة. وهو ما دفع الجيش إلى تكثيف استهدافاته المدفعية لإضعاف تحركات المسلحين وشلّ خطوط إمدادهم. وعلى محاور غرب الغوطة، لم تطرأ تغييرات لافتة على خارطة السيطرة، في وقت يحاول فيه المسلحون تشتيت قوة الجيش عبر هجمات متفرقة هناك، كانت إحداها عبر إرسال سيارة مفخخة يقودها انتحاري باتجاه نقاط الجيش في حي القابون، ليل أول من أمس. غير أن عناصر الجيش تمكنوا من تفجير السيارة قبل وصولها إلى هدفها المفترض. ورغم أن الجيش أوقف هجماته أمس، في محاولة لتفادي وقوع أيّ خسائر إضافية، فإن من غير المحتمل أن يتوقف التحرك بشكل كامل، وسيتابع الجيش استهدافاته المدفعية والجوية لمواقع داخل الغوطة. وفي المقابل، استهدفت الفصائل المسلحة أحياء مدينة دمشق بما يزيد على عشرين قذيفة صاروخية، تركزت في مناطق باب توما والعباسيين ضمن دمشق، وفي مخيم الوافدين وضاحية الأسد في محيط طريق دمشق ــ حمص الدولي.
وفي موازاة تحرك الجيش في الغوطة، أشارت وزارة الخارجية الروسية، في تعليقها على إقرار الهدنة، إلى أن القرار يستثني الجماعات الإرهابية والمرتبطين بها، من الهدنة، موضحة أنه يجب الاستمرار في محاربة تلك التنظيمات. وأعرب بيان الوزارة عن الأمل في قدرة الداعمين للمجموعات المسلحة على «إجبار المسلحين على الالتزام بوقف الأعمال القتالية». وجدد التأكيد على أن الجماعات المسلحة في الغوطة «فضّت جميع المبادرات وحالت دون فتح ممرات إنسانية». ولفتت إلى أن مجلس الأمن أدان للمرة الأولى، منذ سنوات، قصف المجموعات المسلحة العاصمة دمشق. وجاء حديث موسكو بالتوازي مع اتصال هاتفي جمع الرئيس فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية، شتيفان زايبرت، إن القادة الثلاثة «رحّبوا»، في محادثة هاتفية مشتركة، بتمرير مشروع قرار الهدنة بالإجماع في مجلس الأمن. وأضاف أن «ميركل وماكرون طالبا الرئيس الروسي بممارسة أقصى قدر من الضغط على النظام السوري، لينفذ وقفاً فورياً للغارات الجوية والقتال في الغوطة الشرقية». وبدوره، أفاد بيان أصدره الإليزيه بأن الرئيس ماكرون شدّد خلال الاتصال على أن بلاده «سوف تسهر على ألا يبقى القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة حبراً على ورق».
ورغم الترحاب الذي لقيه قرار الهدنة من عدد كبير من الدول والمسؤولين الأممين، حيّدت أنقرة عمليتها العسكرية في عفرين عن القرار، عبر التأكيد على استمرار عملية «غصن الزيتون» في عفرين. وقال المتحدث باسم الحكومة التركية، بكر بوزداغ، إن «هدف عملية عفرين هو القضاء على التنظيمات الإرهابية والإرهابيين». ومن دون أن يشير مباشرة إلى قرار مجلس الأمن، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان أنه لن يكون هناك هدنة في العملية العسكرية التركية، خلال حديث له في ولاية شانلي أورفا. وتواصلت عمليات الجيش التركي في شمال غرب عفرين، وتمكن من السيطرة على عدد من القرى شمال ناحية راجو، بين منطقتي شنكال وأده منلي، ليكون بذلك الطريق مفتوحاً بين مناطق سيطرتها في ناحية بلبل (شمال) ومحيط مركز ناحية راجو (شمال غرب).
(الأخبار)