لندن | بعد التشاور مع مستشاريها العسكريين في مقر رئاسة الوزراء في لندن، بدا واضحاً أن تيريزا ماي تبذل جهداً مضاعفاً وهي تتحدث أمام الكاميرات لتظهر متجهّمة وجادة بينما تعلن عن ثقتها بنجاح أربع طائرات بريطانيّة في إصابة أهدافها ضد موقع للجيش السوري إلى الغرب من مدينة حمص يُفترض أنّه يُتّخذ لتخزين أسلحة كيميائية مزعومة. لكن استعراض القوّة هذا بدا فارغاً وأقرب إلى إثارة السخرية – تماماً كما المشاركة الرمزيّة البريطانيّة في العُدوان ذاته – ولم يخدع أحداً، لا في الشارع ولا في المعارضة ولا حتى بعض أعضاء حزب المحافظين الحاكم، فضلاً عن المراقبين الذين اعتبره أحدهم (جون ريز) عديم المضمون لكنه إشارة حاسمة إلى أن «السياسة الخارجيّة البريطانيّة تصنع في البيت الأبيض»، وأن ماي أضعف من المشاركة الفاعلة في عدوان أميركي، لكنها أضعف من أن لا تشارك أيضاً.وبالفعل، فإن الحكومة أقدمت على هذا القرار بعد توجيهات أميركيّة خلال عطلة البرلمان ودفعت باتجاه تنفيذه خلال عطلة نهاية الأسبوع تجنباً في ما يبدو للتعرّض لتصويت من الأرجح أنّه سينتهي إلى هزيمة مذلّة تشبه تلك التي تعرّضت لها حكومة ديفيد كاميرون عند محاولة سابقة للحصول على تفويض لقصف سوريا. وهو ما بدا أمراً شبه محسوم، بدلالة أن مجموعة نوابٍ مؤيدة للعدوان من كلا الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمّال) أعربت عن تفضيلها لو أن ماي عرضت المسألة على البرلمان. ونقل عن جون وودكوك من «العمال» قوله «إن من الصّّواب التحاق المملكة المتحدة بجهد الحلفاء لتقليص قدرة (الرئيس بشار) الأسد على شنّ هجمات كيميائيّة، لكن على رئيسة الوزراء تقديم تفسير لاعتبارها التصويت على هذا القرار بالأمر غير المناسب».
وباستثناء الصحافة البريطانيّة التي يغلب عليها التيّار اليميني، والتي قدّمت دعماً غير محدود للهجوم، فإن كافة الكتل السياسيّة الفاعلة أعربت عن إدانتها له، واعتبرته مفتقراً إلى أي سند قانوني ولا يسهم في تحسين الأوضاع الإنسانيّة في سوريا بأي شكل.
الوزيرة الأولى في اسكتلندا، نيكولا ستيرغن، اتهمت ماي «باتباع التوجيهات الرئاسيّة من البيت الأبيض». وحذّرها زعيم «الليبراليين الأحرار»، فينست كابل، من خطورة «سياسة التعلّق بأذيال معطف رئيس أميركي أهوج، وأنها ليست بديلاً من تفويض مجلس العموم». بدوره، رأى جوناثان بارتلي وزميلته كارولين لوكاس من قيادة حزب الخضر، في تصريح مشترك، أن ماي «داست الديمقراطيّة البرلمانيّة بقدميها»، ودعوا إلى تصويت على ذلك في أول جلسة برلمانيّة تعقد اليوم الإثنين (الأمر الذي سارعت ماي إلى رفضه، مصرّة على الاكتفاء بالإجابة عن أسئلة النوّاب في هذا الخصوص فحسب).
دعا كوربن إلى إقرار قانون يحصر سلطة إعلان الحروب بالبرلمان


لكن أقوى الانتقادات لخطوة ماي جاء كما هو متوقع من زعيم المعارضة اليساري جيريمي كوربن، الذي شن هجوماً متكرراً على العدوان، واصفاً إيّاه بأنّه «غير قانوني» ومنتقداً النفاق الأخلاقي للحكومة بتبريرها التدخّل لدواعٍ إنسانيّة. وفي ما بدا كلطمة لحكومة ماي، دعا كوربن أعضاء مجلس العموم إلى إقرار قانون يحصر سلطة إعلان الحروب بالبرلمان، نظراً إلى عدم امتلاك المملكة المتحدة دستوراً مكتوباً واعتمادها على العرف في اتخاذ القرارات بشأن المسائل الكبرى، ولا سيّما أن الحكومة الحالية تتمتع بأغلبيّة هشّة للغاية، وغير كافية في المقياس البريطاني لاتخاذ قرارات مصيريّة.
شعبياً، أعلن تحالف «أوقفوا الحرب»، الذي أغرق أول من أمس شارع داوننيغ ستريت حيث مقر الحكومة بالمتظاهرين إدانة لمشاركة بريطانيا في الهجوم على سوريّا، عن برنامج تحركات يستمر خلال الأسبوع لإسماع صوت البريطانيين الذين يغلب عليهم مزاج معارضة التورط في حروب خارجيّة.
ورغم الهمروجة الداخليّة حول الهجوم الأخير، فإنه في حقيقة الأمر ليس استثناءً في سياسة بريطانيا بشأن سوريا. فمن المعروف أن لندن سهّلت تجنيد وتسفير مئات «الجهاديين» البريطانيين إلى سوريا عبر تركيّا، وهي تمنح معارضي النظام السوري حريّة الحركة والنشر ونقل الأموال، كما تسهم قوات بريطانيّة خاصة في عمليّات سريّة لدعم قوات معارضة في غير موقع سوريّ، وما زالت المقاتلات البريطانيّة تشارك دوريّاً في غارات «التحالف الدولي».
استراتيجيّاً، فإن المعلقين السياسيين يتجهون إلى اعتبار الهجوم الأخير دلالة إفلاس السياسة البريطانيّة نهائيّاً في سوريا، وأن النصر صار شبه مكتمل في يد دمشق وحلفائها رغم الدمار الشديد الذي أصاب البنية التحتية للبلاد، وأن مسألة إسقاط نظام الرئيس الأسد لم تعد ملفاً مفتوحاً، أقله في المدى القريب والمتوسط. ويلقي الهجوم في الوقت ذاته بظلال قاتمة على القدرات العسكريّة الواهنة للمملكة المتحدة التي تحوّلت بالفعل إلى ما يشبه وحدات رمزيّة تشارك في الأعمال الحربيّة الأميركيّة لاكتساب السمعة، من دون القدرة على الدخول في أي مواجهات شاملة مع قوى ناهضة مثل الصين أو روسيا.