يغيب عن القارئ العربي «فلسفة» إسرائيلية، بالمعنى التهكمي للكلمة، تسمى «هامش الإنكار» حيال أعمال عدائية تُقدم عليها تل أبيب في محيطها. هذا الهامش، يتلخص في عدم إصدار بيان رسمي، أو تصريح لمسؤول أو غير مسؤول، يقول فيه بشكل مباشر، إنّ إسرائيل هي التي أقدمت على الاعتداء. دون ذلك، يمكن للمسؤولين والمعلقين قول ما يشاؤون، وتحليل ما يشاؤون، وعليهم قبل إسناد الفعل العدائي لإسرائيل، التأكيد أن الاتهام مسنود إلى «مصادر أجنبية».تعتقد إسرائيل، أو تخادع نفسها من خلال الاعتقاد، أنها إن لم تصدر بياناً رسمياً تتبنى فيه الاعتداءات، فإنّ أحداً غير قادر على «اتهامها»، ما يتيح للطرف الآخر، بحسب الديباجة الإسرائيلية، التغاضي عن الرد والحرج أمام جمهوره. المهم أن إسرائيل، لم تصدر بيان تبنٍّ رسمياً.
كان بالإمكان، نظرياً في حد أدنى، لـ«هامش الإنكار» أن يؤتي مفاعيله، في حال صمتت إسرائيل فعلاً، وكان هناك احتمالات أخرى أن يكون غيرها الجهة المعتدية، وأن لا يكون لدى الطرف الآخر إمكانية إثبات أن إسرائيل هي المعتدية. لكن المثير للدهشة، أن «هامش الإنكار» يأتي في سياق وموازاة اهتمام إعلامي إسرائيلي لافت ومتصدر جداً، وتصريحات لمسؤولين إسرائيليين تتبنى الاعتداءات مواربة وبصورة تكاد تكون مباشرة، فيما تتصدر التعليقات والتحليلات وسائل الإعلام المختلفة، وكأن لا حدث آخر غير الاعتداء. وهذا لا يختلف إن كان الفعل الاعتدائي بواسطة سلاح الجو، أو صواريخ أرض ــ أرض، أو عمليات أمنية صامتة. في حين أن وسائل كشف الاعتداءات متاحة للجميع، ومسجلة لدى الجميع، ومقروءة جيداً على شاشات الرادارات، بلا مجادلة حولها.
إنه هامش إنكار، بنسخة إسرائيلية لافتة جداً. تبدأ النشرات الإخبارية بالأنباء الواردة عن الاعتداء، ومن ثم نقاش مستفيض عن تداعياته ونتائجه وإمكانات الرد على إسرائيل من دعمه، ومستوى هذا الرد. تستضيف استوديوات التحليل في قنوات التلفزة العبرية كبار المحللين والخبراء، بما يكاد يستهلك معظم النشرات الإخبارية، فيما تمتلئ الصحف والمواقع الإخبارية، حتى الإشباع، بأخبار وتعليقات عن الاعتداء. المهم، في كل ذلك، كما تطلب الرقابة العسكرية، أن يقال في حالة إسناد الفعل لإسرائيل «بحسب مصادر أجنبية»، وهذه العبارة تكفي، لتفويت الفرصة على الآخرين، اتهام إسرائيل و«إمساكها بما أقرت به»!
لو صمتت إسرائيل لكان بإمكان «هامش الإنكار» أن يؤتي مفاعيله


إنه النسخة الإسرائيلية لـ«هامش الإنكار»، الذي يخرج الإنكار شكلاً ومضموناً من مضامينه. آخر «هامش إنكار» إسرائيلي، جاء في أعقاب الاعتداء في مطار «تي فور» العسكري في ريف حمص، علماً بأن الرادارات سجّلت الاعتداء وحددت هوية الطائرات ونوعها ومكان إقلاعها ومسارها. لكن من جهة إسرائيل، «هامش الإنكار» قائم وسيفوّت فرصة الرد عليها من قبل الأعداء، أو في حال قرروا الرد، فيسكون محدوداً.
من غير المعلوم من أي مدرسة إعلامية أو استخبارية أو فلسفية، يأتي هذا الفهم لهامش الإنكار الذي لا يحمل أي إنكار. المثير جداً واللافت جداً، أن المواقف والتعليقات في إسرائيل لمسؤولين حاليين وسابقين، وكذلك لمعلقين وخبراء، بلا استثناءات، تقر وتعترف وتحلل وترسل رسائل تهديد وتقرأ تداعيات الاعتداء وشكله ومضمونه والأهداف التي حققتها. لكن يكفي أن يرد قبل التحليل وقبل المواقف، عبارة «بحسب مصادر أجنبية»، فيكون «هامش الإنكار» قد تحقق وحقق نتائجه.
للمثال لا الحصر، نورد عيّنات قديمة وجديدة، لوضع القارئ في الصورة العبرية لـ«الإنكار»:
يرد في صحيفة «هآرتس»، تحت عنوان «إسرائيل على أعتاب حرب جديدة»، بتاريخ 13/01/2018، تعليقاً على الاعتداءات الإسرائيلية في سوريا: «كلما زادت هجمات إسرائيل، بحسب مصادر أجنبية، من خلال وسائل متطورة أكثر، يزداد الاحتكاك المحتمل مع دول وتنظيمات، ويزداد الخطر في نهاية المطاف لتلقي رد مهم... يوم الأحد الماضي، اجتمع المجلس الوزاري المصغر لبحث طويل حول الجبهة الشمالية، وبعد أيام نفذت إسرائيل هجوماً في سوريا، بحسب مصادر أجنبية... ولهذا الهجوم تداعيات».
يرد في نشرة خاصة تقويمية تصدر عن مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب (11/02/2013) ما يأتي: «حسب مصادر أجنبية، نفذت إسرائيل هجمات ضد قافلة سلاح في سوريا، وعلى الأرجح هي منظومة أس أي 17. يطرح هذا الهجوم مسائل مهمة على المستوى المبدئي المتعلق بمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وكذلك في السياق الموضعي لتقويم الوضع حيال تشكل تهديد ذي مغزى للمصالح الأمنية الرئيسية لدولة إسرائيل».
يرد في صحيفة «إسرائيل اليوم» 10/04/2018: «بعد ساعات قليلة من المجهولية! قرر الروس كشف السر! وقالوا إن الهجوم الليلي في عمق سوريا في مطار (تي فور)، نفذه سلاح الجو الإسرائيلي. هذا يؤدي إلى التزام إيراني أو سوري بالرد، وربما يؤدي إلى خطوات صعبة».
من المفيد إشراك القارئ في فهم ما يجري وما يخترع إسرائيلياً من «فلسفات» و«هوامش إنكار»، تثير الدهشة في حد أدنى، إن لم يكن أكثر من ذلك.