الرجوع إلى «المتاهة» «كيف لاقيتي (وجدتِ) الشام؟» يسألني نجل شيخ عشيرة كبيرة من مدينة الحسكة، فيما نحن جالسون في أحد المقاهي في فندق «الفورسيزن» في دمشق. يباغتني سؤاله، مُزيحاً غيمة الدخان التي أطلقتها للتو من فمي. أحاول ترتيب جلستي، ملصقة ظهري بالمقعد، أحِلُّ اشتباك ذراعيّ، و«الجديلة» التي صنعتها بساقي. لعلها... «العاصفة» التي هبت على هيئة سؤال!
كان هذا قبل أن أبدأ المحاولة بتشكيل «صفٍ» من الكلمات المفيدة والمترابطة، خاصةً أن نجل الشيخ عَرف للتو أن «ضيفتهم» من فلسطين المحتلة، وعاشت الجزء الأكبر من عمرها في الجليل، حتى الاستقرار في لبنان قبل سنوات خمس.
إنه يسألني كيف وجدت الشام؟ يا للجواب من (مجازفة)! إن سؤاله أصعب عليّ من حلّ معادلة رياضية جوابها عدد لا نهائي من الأرقام، إنه أثقل على دماغي من فهم معادلة سقوط جسدٍ من علوٍ شاهق. من أين البدء وأنا لا أعلم بعد كيف تورطت في هذا الحب، وأن عاطفتي نحو دمشق يستحيل أن تشبه عاطفتي نحو شيء آخر، ولا أيُ بلدٍ آخر وحتى... تجاه وطني فلسطين!
هل أبدأ من مطلع هذه الألفيّة التي نحن فيها؟ حسناً، فأنا لا أملك إلا مفتاحاً واحداً لدخول هذه المغامرة أو الخروج منها. وقد «ورثته» عن جدتي وتحديداً في عام 2003، عندما سافَرت مع نحو ألف فلسطيني آخرين من الأرض المحتلة عام 1948، إلى الشام. حدث ذلك، برغم أن القانون الاحتلالي الذي يسري على أصحاب الأرض يحرّم تواصلهم مع امتدادهم العربي، ويمنع زيارتهم إلى هناك بصفة سوريا بلداً عدواً لإسرائيل (لكنه حدث بفضل المناورة القانونية التي لم تعد ممكنة اليوم). صحيح كنت طفلة، لكنني لا زلت أذكر ذلك الصيف الملتهب عندما عاد جدي وجدتي اللذان سافرا للقاء أقاربهما المهجرين منذ النكبة؛ ما زلت أذكر تلك اللهفة في صوتها، والدموع في عينيها وهي تتحدث عن الشام. العاصمة التي كانت بالنسبة لي، حتى أول من أمس، بمثابة نجمة معلّقة في سماء بعيدة يستحيل أن تلمسها أصابعي. «لفيت العالم يا ستي، بس أحلا من الشام ما لقيت ولا راح ألاقي» كانت تتحدث عن ذلك وهي تبكي، أو لنقل وهي لا تعرف لماذا تبكي. وها أنا مثلها الآن أختنق بالكلمات ولا أعرف سبباً لبكائي.
لعل الجواب قد يكون سهلاً على الأصدقاء في لبنان، من الذين يزورون الشام دائماً. حبهم قد يكون مرتبطاً بالدرجة الأولى بالتقدير لسوريا التي يرونها من خلال مفهوم الدولة. أي الدولة التي فيها مقومات المدنية والمواطنة، من توفير الكهرباء والماء ودعم الخبز والمازوت، والطبابة المجانية، والتعليم الإلزامي المجاني، وتطور البنى التحتية بالنسبة إلى بلد محاصر... هذا مفهوم بالنسبة إلى من يعيش في «الفوضى» اللبنانية.
أمّا ما حصل لي، فهو أن دمشق أعادتني إلى المتاهة الأولى! إلى أصل الإنسان الذي يبحث ويفكر في وجوده. أمسكت بيدي، وشدتني إلى قاع سحيق، فَرُحتُ أسأل، بينما أجيب وأُكيل وأقارن بنفسي، السنوات الخمس التي عشتها في لبنان، وكَيف حوّلني «الوحش» الإسمنتي الماديّ إلى كائن بذراعين ضخمين يحرّكان «عجلة الاقتصاد» العالميّة، منذ السادسة صباحاً وحتى مغيب الشمس! ولمّا يحل الليل، يرتمي كائني تعباً مع الكائنات المنتشرة حول أسوار العالم، على وقع ضربات جرس بورصة وول ستريت ذات الأسهم الخضراء اللون، والتي بفضلنا طبعاً، «تركض» دولاراتها صعوداً بينما العملات الأخرى في انهيار.
أمّا في الشام، فكانت أربع وعشرون ساعة فقط كفيلة بأن تصيغ سعادتي في وجوه الناس الذين يفترشون عشب الحدائق المنتشرة، من دون كلفة ولا «مكياج» ولا «برستيج».
إنها الحرب!
من نقطة الانطلاق إلى سوريا، وتحديداً على حاجز للجيش اللبناني آخر جسر الكوكودي في ضاحية بيروت الجنوبية، توقفت بنا السيارة ذات لوحة الأرقام السورية. وسط الزحمة، تقدم طفل سوري بعمر ثماني سنوات (عمر الحرب في بلده)، متكئاً بيدٍ على نافذة السيارة، وحمالاً باليد الأخرى مجموعة من «عقود» أزهار الغاردينيا. «الله يخليك يا عمو إشتري مني. كلن بألفين ليرة...الله يوفقك». توّسل الصبي، فجاء الرّد: «الله يبعتلك حبيبي». وفي لحظة تخلي تام عن محاولة «التجارة»، تحولت عينا الصبي إلى الصلبان التي علّقها سائق السيارة على مرآة الزجاج الأمامية، فسأل ببراءة: «عمو... إنت شلون سوري بس مسيحي؟» خرجت ضحكة من فمِ السائق، وهو يقود باتجاه الجنود اللبنانيين. أمّا الصبي، فظل واقفاً هناك.. على طرف الطريق، في متاهته البائسة.
أخيراً، وبعد ساعتين في الطريق من بيروت إلى المصنع، عبرت السيارة الحدود بين لبنان وسوريا، وظهرت لافتة كبيرة كُتب عليها «سوريّة المنتصرة ترحب بكم». كان هذا قبل أن تتوقف على حاجز للجمارك السورية، ويتقدم ضابط الجمارك متسائلاً: «شلون عم تدخنوا؟ ما بتعرفوا إنه التدخين هون ممنوع وهاد مخالف للقانون»، فنظرت إليه بعينين خائفتين، وقلت: «بأمرك سيدنا هلأ منطفيها تكرم عينك». أما هو فأطلق ضحكة طويلة قائلاً: «العما ليش خفتي هيك شو ما بتقبلوا المزح؟!». وظل صدى ضحكته يتردد في مخيلتي، بينما كان السائق يشرح كيف استرد هذا الطريق «السياحي» عافيته، وعادت الوفود والزيارت الدينية والسياحية تدريجياً إلى الشام. أخيراً حتى وصلنا إلى... المليحة، في الغوطة الشرقية.
كانت هذه المرّة الأولى التي أستوعب فيها معنى عبارة «ملعب فوتبول»؛ الكلمتان اللتان يستخدمها اللبنانيون لوصف ما خلّفه القصف أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. وذلك في إشارة إلى تدمير المباني بواسطة الصواريخ وتسويتها بالأرض. وهنا أيضاً في المليحة، وزبدين، وعربين وصولاً إلى حرستا، وغيرها من المناطق التي استعاد الجيش العربي السوري وحلفاؤه السيطرة عليها أخيراً إثر تحريرها من أيدي الجماعات المسلحة؛ يوجد عدد لا يحصى من ملاعب «الفوتبول». هي الحرب... لا ترحم أحداً «المهم البشر لا الحجر».
التنقل في الغوطة الشرقية من دون «مرافقة» يبدو ضرباً من الجنون. فباستثناء الحواجز المنتشرة، والكلاب الشاردة بين جحيم الدمار، وأكوام الحصى والتراب، لا يوجد مخلوق واحد. وفيما يشق الجيب العسكري طريقه بين الغبار، تمر البيوت المدمرة كشريط سينمائي سريع، حتى توقف للحظات عند الحواجز؛ فيخرج مقاتل «الحرس القومي العربي» بطاقته، مشيراً للجندي بكلمة «السر»: أصدقاء. يبتسم الجندي ويفسح الطريق أمامنا.
الطقس جاف هُنا، والحرارة تخطت عتبة الأربعين. أمّا الرياح التي تهب بينما يُسرع الجيب فتجلب إلى رئتك الكثير من الغبار. كل هذا بينما أنت تفكر في الذين عاشوا هُنا قبل سقوط لعنة الحرب «من السماء»، وكيف كانت حياتهم. تقرأ مثلاً على أحد الجدران المتداعية، في لوحة بقيت معلقة من طرف واحد: «سودة نيّة، فروج مشوي...» فتستنتج أنه كان في يومٍ ما مطعماً. يشرح مقاتل «الحرس القومي» كيف قاتلوا إلى جانب الجيش السوري، مشيراً بيده إلى الخنادق التي حفرها المسلحون داخل الأرض، وفي الوقت نفسه يجعلنا نشاهد شريطاً موثقاً من المعركة التي قاتل فيها، حيث نقف بالتحديد!
دمشق التي تُشبهنا
لم أرَ دمشق إلا في الصور، وكان ذلك قبل أن توغل الحرب وتنهش قلوب العباد وأكبادهم، وتحفر الحزن في وجوههم. لكن «لا بأس» كما يقول أحدهم، مضيفاً أن وطنه لا بد أن «يذوق الُمر بمعدل مرّة كل أربعين عاماً. اليوم نحن، وبعد عقود أولادنا، أو أحفادنا. المهم أن دمشق لم تسقط مرّة في التاريخ».
يتجوّل الناس في دمشق القديمة؛ وها أنا بفضل «يدٍ ما خفيّة» أمشي مثلهم وأتجوّل في سوق الحميدية، وفي باب توما، وباب شرقي، وآكل تلك البوظة التي سمعت باسمها قبل 14 عاماً: «بوظة بكداش»...لا يوجد شيء مستحيل. هم سُعداء رغم كل جراحهم. على الأقل هذا ما يبدو على وجوههم. وعندما يعرفون أنك لست «من هُنا» يحارون كيف يكرمونك. هذا يريد أن يشدك إلى صحن حمص، أو محمرة. وآخر يبادر: «أي شي بتحتاجوه نحن هون». وآخر يدعوك إلى بيته «البيت بيتكن إيمت ما بدكن أهلا وسهلا».
أمّا في بردى، وساحة الأمويين، وكفر سوسة، والمزة وغيرها...فعلى ما يبدو الحرب «هي في مكان آخر». السهر منتشر في الطرقات، وعلى أطراف النهر (بردى) في المطاعم والمقاهي. الأغاني تصدح، والناس يرقصون ويدبكون. لا ترى هذا الازدحام (في الأيام العادية) في المقاهي اللبنانية، (اللهم) باستثناء مدينة صور، على شاطئ البحر. يبدو أن دمشق ليست للسائحين، هي لأهلها، وللناس العاديّين الذين لا يعرفون للتصنع طريقاً. فهنا مثلاً لا مشكلة ولا خجل من أن تأتي بكرسيك من البيت وتجلس (من دون أن تدفع ليرة) على جانب الطريق فوق مساحة عُشب أو تقوم بـ«السيران» مع عائلتك وأصدقائك في الحدائق العامّة. هل هذا يمكن أن يحدث في بيروت؟ «البرستيج» لا يسمح.
مع ذلك، ثمة «خواص» لا تليق بدمشق. فصحيح أن عمّال النظافة يعملون كل الوقت، لكن رمي النفايات على الطرقات منتشر بين البعض. يفسر أحدهم ذلك بأن «الحرب صرلا سبع سنين... إنجاز إنه عامل النظافة بعده بالشارع»، لكن ما علاقة الحرب بحب الأرض؟ والانتماء إليها والمحافظة على نظافتها؟ «على أيّة حال في بيروت... حدّث ولا حرج».
يهبط الليل فوق دمشق وكأنه غطاء. تنخفض درجة الحرارة إلى 18 مئوية. وهنا في المليحة لا أحد سوى أنت والمقاتلين ونجوم السماء، ومن بعيد يُسمع صوت عُرس، ومئات أصوات الكلاب الشادرة، قبل أن يشقها صوت القصف الإسرائيلي على مطار المزّة. لكن الصُبح ينبلج أخيراً ويُقال إن «ذلك كان ماس كهربائي».
أخيراً تعود إلى لبنان، وبمجرد أن يُختم على جواز سفرك ختم الخروج، تشعر وكأن قطعة ما سُلخت من قلبك، دون أن تفهم لماذا يحدث ذلك، لكنك تواسي نفسك..سأعود قريباً.