الريح الغربية تكسر حدّة اللهيب الآتي من شمس ما قبل الظهيرة فوق تلال الزبداني في ريف دمشق الغربي، المكسوّة بالسنديان والصنوبر البري. المناسبة إحياء عيد النبي هابيل في مقامه الأثري بين التلال المتراصّة في سلسلة جبال القلمون. مقام متواضع لبطل الأسطورة، النصف الخيّر من الصراع الأزلي بين إخوة الحقّ والشرّ. أمّا الزوّار، فعمائم بيضاء آتية من الجليل والكرمل لعمادة التراب على أرض الشام، بعد تغربة السنوات الثماني الماضية، وفي استقبالهم رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال أرسلان ومشايخ الموحّدين الدروز، من جبل العرب وجبل الشيخ وجبل السماق وجبل لبنان. ومن مقام النبي هابيل، انتقل الزوّار إلى ضريح الجندي المجهول فوق جبل قاسيون، في جملة رسائل حملتها الزيارة.منذ بدء الحرب على سوريا، توقّف مشايخ «لجنة التواصل الدرزية» عن الحجّ إلى دمشق من شمال فلسطين المحتلّة. التآمر الأردني على سوريا قطع طريق دمشق ـــ عمّان، ومعبر القنيطرة بين أراضي الجولان المحتلّة والمحرّرة، وهبته إسرائيل لعملائها من تنظيم القاعدة في الجنوب السوري. انقطعت السبل، لكن بقي التعلّق والارتباط.
يقف دروز فلسطين بعد إقرار قانون يهودية الدولة أمام مفترق طرق


اليوم، لم تكد السنوات السبع العجاف تشارف على النهاية، حتى عاد مشايخ شمال فلسطين المحتلّة إلى الشام في زيارة دينية، تحمل أبعاداً ورموزاً لمستقبل موقع طائفة الموحّدين الدروز في الإقليم، ودور سوريا الدولة الوطنية التعددية، في مواجهة إسرائيل، كيان الأبرتهايد العنصري. منذ أكثر من عام، ورئيس لجنة التواصل الدرزية في فلسطين المحتلة الشيخ علي المعدّي، ومنسّق اللجنة إحسان مراد، يعملان على ترتيب الزيارة بصمت، بالتنسيق مع الحزب الديموقراطي اللبناني. وعند اتضاح المشهد السوري واستعادة الجيش السوري كامل محافظتي درعا والقنيطرة، لم يتأخر أرسلان في طرح الأمر مع الرئيس السوري بشّار الأسد، الذي وافق على عجل على استقبال المشايخ، وتسهيل وصولهم إلى الداخل السوري من الأردن.
غير أن المتضرّرين من الزيارة ودلالاتها كُثر. أوّلهم الاحتلال الإسرائيلي، الذي يريد من الدروز، كما يريد من غيرهم من فئات الشعب الفلسطيني، أن يكونوا شهود زور على كيان استيطاني يهودي، يدّعي الديموقراطية وحماية «حقوق الأقليات»، ونموذجاً للجماعات المغلقة ذات الهويات الضيقة والنزعات الانفصالية في دولة عنصرية تحمل في أفكارها الأمراض المعدية لفئات الشعب السوري واللبناني والعراقي وباقي شعوب المنطقة. وثانيهم، الشخصيات الدرزية المقرّبة من الاحتلال، و«الإكليروس الدرزي» وغيره في داخل فلسطين المحتلّة، الذين يشجّعون أبناء طائفة الموحّدين الدروز على الالتحاق بجيش الاحتلال والتعامل مع دولته وكأنها المرجعية الصالحة لرعاية شؤونهم، ومع إسرائيل بوصفها الدولة «القطرية» التي على الدروز طاعتها، في مقابل القطيعة مع سوريا. وثالثهم، الذين يناصبون الدولة السورية العداء في لبنان، ويؤلّبون الدروز ضدّها ويحرّضون الغرب على التدخّل الخارجي لـ«تأمين الحماية للطائفة» من عدوّ وهمي.

مصادرة جوازات السفر واحتجاز المعدّي
على الرغم من الإشاعات والتهديد والوعيد التي بثّها المتضررون طوال الشهر الماضي، لثني المشايخ وأعضاء لجنة التواصل عن الزيارة، لم يمنع ذلك المشايخ من الحضور وتحمّل مشقّة الرحلة وتبعاتها. لكن لم يكتف الاحتلال وأزلامه بالإشاعات عن الأخطار الأمنية في سوريا والضغوط. صباح الأربعاء، دهمت قوّة من جيش الاحتلال منزل مراد، وصادرت جواز سفره، في خطوة أريد منها إخافة المشايخ. وعند الساعة الخامسة من مساء الأربعاء، وأثناء وصول الشيخ علي المعدي إلى معبر الشيخ حسين آتياً من فلسطين المحتلة إلى عمّان، اعتقلته قوّات الاحتلال. وعند الساعة التاسعة والنصف، أي بعد إغلاق المعبر، جرى نقله إلى مكان احتجاز آخر ومصادرة جواز سفره، قبل أن يتمّ الإفراج عنه ليلاً، ومع ذلك تابع المشايخ الآخرون رحلتهم.

55 «فدائياً»
أن تكون مواطناً فلسطينياً وترفض الاحتلال في أراضي فلسطين التاريخية، فإنك ستدفع ثمناً غالياً. 55 شيخاً حضروا أول من أمس إلى دمشق يمثّلون غالبية قرى الجليل والكرمل (بيت جن، يركا، جولس، البقيعة، شفاعمر، عسفيا، المغار، كسرى، حرفيش، عين الأسد وجَثَّ)، بعض هؤلاء لا يزال يدفع ثمن زيارته سوريا في أعوام 2005 و2007 و2010، مطاردة وملاحقة وضغوطاً. يقول أكثر من شيخ من الحاضرين لـ«الأخبار» إنهم يدركون أنهم قد يعاقبون من قبل الاحتلال بسبب الزيارة، ومع ذلك، فإن زيارة الشام تستأهل هذا العناء. في فلسطين التاريخية، إمّا أن تتأسرل وتحصل على بعض الامتيازات، وإما أن تحافظ على هويتك، فتعاني في رزقك ورزق أولادك وتتعرض للسجن والملاحقة.
ومع أن الزيارة تكتسب طابعاً دينياً، إلا أنها لا يمكن أن تنفصل عن المشهد العام الذي يحيط بأبناء طائفة الموحّدين الدروز في فلسطين والجولان المحتل وباقي الأراضي الشامية ولبنان، لتظهر زيارة المشايخ إلى سوريا بوصفها المرجعية السياسية الوطنية لطائفة الموحدين ببعدها الإقليمي.
يقف دروز فلسطين بعد إقرار قانون يهودية الدولة، أمام مفترق طرق. فالاحتلال يضعهم أمام احتمالين: إما الرّكون إلى إجراءات تحويلهم إلى «مواطنين» من الدرجة الثانية في دولة احتلال أصلاً، بعد كل الأثمان التي قبضها الكيان عبر انخراط عدد لا بأس به منهم في جيش العدو، وإما خيار تحويلهم إلى أقلية تحكمها قوانين خاصة تميّزها عن غيرها من فئات الشعب الفلسطيني في سياسة تفكيكية لتَسْهل أمام الاحتلال السيطرة على الفلسطينيين في أرضهم التاريخية. وفي الجولان، يضع الاحتلال أهالي القرى المحتلة أمام استحقاق الانخراط في انتخابات المجالس المحلية في شهر تشرين الأول المقبل، لانتزاع اعتراف بشرعيته منهم، في سياق أسرلة الجولان والتمهيد للحصول على إعلان أميركي بالسيادة الإسرائيلية على الأراضي السورية المحتلة. أما في لبنان، فيدفع استمرار تحريض رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الدروز اللبنانيين ضد سوريا إلى فقدانهم الدور الذي تمّ تثبيته في اتفاق الطائف.



أرسلان: ليس هناك مشروع خاص بالدروز
ردّ النائب طلال أرسلان بمواقف قاسية على الذين يطالبون بـ«حماية دولية للدروز»، معتبراً أن «هؤلاء يريدون تحويل الدروز إلى حرس حدود لإسرائيل»، ومشيراً إلى أن «دور الدروز هو في صدارة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي كما كانوا دائماً». وفي كلمة أمام الزوّار في قاعة فندق الصحارى في الديماس، أكّد أرسلان أن الدروز لا يملكون مشروعاً خاصاً بهم، إنّما مشروعهم «وطني عروبي خلف الدولة والجيش السوري والرئيس بشار الأسد». وردّ أرسلان أيضاً على الذين يحرّضون على عدم الالتحاق بالجيش السوري، مشيراً إلى أن مسؤولية كل سوري وموحّد هي الدفاع عن كامل التراب السوري، وأنه «سيكون لكم شرف المشاركة في استرجاع الأراضي المحتلة في شمال سوريا إلى جانب إخوتكم من السوريين». وعن قضية المختطفين في السويداء، جزم أرسلان بأن «الرئيس الأسد يتابع شخصياً مسألة المختطفين ويعمل على تحريرهم، ونحن ليس لدينا غير هذا الطريق لاستعادتهم، وليس لدينا تواصل مع الإرهابيين كما يفعل البعض». من جهته، أكّد الشيخ علي المعدّي، في رسالة صوتية، أن «سوريا ستبقى قلعة الصمود مهما اشتدت الصعاب»، موجّهاً التحية إلى الرئيس الأسد و«الشهيد صالح العريضي الذي كان له شرف العمل على مشروع التواصل بين فلسطين وسوريا ولبنان».