تتسم العلاقات الإسرائيلية ــ الروسية بقدر من التشابك والتعقيد. من جهة يحرص كل منهما على أحسن العلاقات الثنائية على مختلف المستويات تجلّت معالمها في التنسيق الأمني بينهما. ومن جهة أخرى، يؤدي تموضع كل منهما إلى قدر من التعارض في المصالح على الساحة السورية، بدأت تجلياتها منذ لحظة مفاجأتها بتدخّل الجيش الروسي المباشر لمصلحة أعدائها في الساحة السورية، مروراً بفشل رهاناتها الميدانية والسياسية، حتى الآن. في المقابل، تراهن تل أبيب على مساحة التباين بين الحلفاء، لكن من دون أن يُمكِّنها من تحقيق أهدافها المؤمَّلة، في منع تعاظم قدرات محور المقاومة في لبنان وسوريا.لم يكن التدخّل العسكري الروسي أواخر أيلول من عام 2015 إلى جانب الجيش السوري ومحور المقاومة، المفاجأة الوحيدة التي صُدمت بها إسرائيل في الساحة السورية، بل واجهت وجهاز استخباراتها العديد من المفاجآت التي غيرَّت مجرى الأحداث من صمود الرئيس بشار الأسد والجيش السوري، إلى تدخّل حزب الله والنتائج التي حقّقها، وصولاً إلى التدخّل العسكري المباشر للجيش الروسي. وفوجئت إسرائيل أيضاً بمفاعيل الانتصارات الميدانية التي حققها هذا التحالف، ما أدى إلى إنتاج واقع مغاير كلياً لما كانت تطمح وتسعى إليه تل أبيب. برّر رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء هرتسي هليفي، في شباط 2016، توالي المفاجآت التي لم تتوقعها إسرائيل في الساحة السورية، بالقول إنّ «قدرة شعبة الاستخبارات على التوقع في الموضوع (السوري) منخفضة، والتاريخ أيضاً أثبت ذلك».

فشل الرهان على المستنقع السوري
بعد التدخّل العسكري الروسي، وبدء تبلور الانتصارات الميدانية لتحالف روسيا - محور المقاومة، راهنت إسرائيل، وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، في حينه على أن سوريا ستتحول إلى مستنقع للجيش الروسي، وهو ما سيؤدي إلى استنزافه وارتفاع الأصوات في روسيا لسحب الجيش الروسي. بالموازاة، حرصت تل أبيب على تواصل سياسي وأمني مكثف مع موسكو، لكن رهانها على «المستنقع السوري» بقي متصدراً إلى حين تحرير مدينة حلب التي شكّلت صدمة ومفاجأة من العيار الثقيل بالنسبة إلى كافة الأطراف الإقليمية والدولية. وتحوّل هذا الانتصار الاستراتيجي إلى محطة مفصلية في حركة الصراع على الساحة السورية.
في سياق الرهانات الإسرائيلية المتوالية، رأى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أيضاً أن مصلحة تل أبيب تكمن في استمرار الاستنزاف، وعلى هذه الخلفية عارض بشدة القضاء على «داعش»، مبرّراً ذلك في أكثر من مناسبة بالقول: «إذا اقتتل عدواك... يجب تركهما يُضعف أحدهما الآخر». وبقي نوع آخر من الرهانات يسيطر على القيادة السياسية في تل أبيب، وهو ما عبرَّ عنه نتنياهو أمام مؤتمر دافوس (21/01/2016) بالقول إنّ «أفضل نتيجة يمكن الحصول عليها (في سوريا) هي بلقنة هادئة نسبياً... هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه».

فشل الرهان على دور كابح لإيران
منذ اتضاح معالم انتصار محور المقاومة، أدركت إسرائيل مخاطر هذا المستجد غير المتوقع وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج وتداعيات على أمنها القومي. وأخذت هجماتها التي تشنها تحت عنوان «المعركة بين الحروب» تأخذ منحى مختلفاً، أجملته بمنع التمركز العسكري الإيراني في سوريا، الذي يعني فعلياً منع إعادة بناء قدرات الجيش السوري، وتحديداً القدرات الصاروخية القادرة على إنتاج ردع يحمي السيادة السورية.
في المقابل، ارتفع رهان تل أبيب على دور ما لموسكو في إخراج إيران أو تقييدها في الساحة السورية. واستندت في ذلك إلى قراءة بالغت فيها من مفاعيل التباينات بين الطرفين الإيراني والروسي، على الساحة السورية. هذا فضلاً عن أن هذا الرهان نبع بشكل أساسي من محدودية خيارات إسرائيل بفعل موازين القوى الإقليمية، والانكباح الأميركي عن التورط المباشر في أي مغامرة عسكرية واسعة.
التقديرات الخاطئة ورّطت تل أبيب في تجاهل حقيقة أن الطرف الروسي لا يملك الأدوات التي تمكنه من القيام بهذه المهمة، وما الذي يدفعه لمحاولة ذلك لحسابات إسرائيلية، وأنه يدرك الحاجة أيضاً إلى استمرار وجود محور المقاومة على الأرض وأن المساحة المشتركة بينهما تتجاوز الساحة السورية، وتحديداً في هذه المرحلة السياسية التي يتعرضان فيها لهجوم أميركي شديد.
مع ذلك تعزّزت الاتصالات والزيارات المتبادلة بين تل أبيب وموسكو على أعلى المستويات السياسية والعسكرية... لكن ذلك لم ينفع في تبدّد الرهان الإسرائيلي تدريجياً على دور موسكو التي صارحت تل أبيب بأن هذا المطلب غير قابل للتحقق، وأن الحد الأقصى الذي يمكن أن تسعى لتحقيقه هو إبعاد إيران وحلفائها عن حدود الجولان عشرات الكيلومترات. إلا أن تل أبيب رفضت الاكتفاء بهذا السقف لأن المخاطر عليها تنبع من أصل التمركز الإيراني، ومن نشر الصواريخ القادرة على استهداف العمق الإسرائيلي انطلاقاً من سوريا.

من سقوط الطائرة إلى فرض إرادات
في ظل هذا الواقع واصلت إسرائيل اعتداءاتها على الأراضي السورية، تحت سقف التنسيق المتفق عليه بين موسكو وتل أبيب، والذي كان مريحاً جداً لسلاح الجو خاصة أنه أغار على مختلف الأراضي السورية، بما فيها المناطق التي يوجد فيها الجنود الروس. وعمدت تل أبيب إلى تكثيف اعتداءاتها وصولاً إلى اعتداء اللاذقية الذي أدى إلى سقوط طائرة «إيليوشن- 20» ومقتل 15 عسكرياً كانوا على متنها، وهو ما ترك تداعيات غير متوقعة على التنسيق الروسي الإسرائيلي، وصولاً إلى قرار موسكو تسليم الجيش السوري منظومة «اس 300»، واتخاذ إجراءات تشويش تتصل بحماية الوجود الروسي.
ويمكن تسجيل ملاحظات عدة على المسار الذي سلكته العلاقات بين الطرفين منذ ما بعد سقوط الطائرة الروسية:
كان بإمكان الطرف الروسي في البداية أن لا يرفع سقف مواقفه إلى حدّ تحميل إسرائيل المسؤولية، بطريقة ألزمت الطرفين بسقوف محددة. ومن الواضح أن الروسي أراد الاستفادة من هذه الحادثة، أضف إلى أن حجم الخسارة الكبيرة، كان يفرض عليه اتخاذ قرارات وإجراءات تحول دون إمكانية تكرارها، وتتناسب مع حجم الضربة التي مسّت هيبته.
مع ذلك، فإن جوهر الموقف الروسي تمحور حول الدعوة إلى الاتفاق على آلية تنسيق جديدة، تعزّز الأمان للطرف الروسي. وهو ما رأت فيه إسرائيل التزاماً بقيود تقلّص هامش حركة سلاح الجو، ولذلك رفضته بالمطلق. في المقابل، قد تكون أهداف الموقف الروسي البعيدة المدى أبعد من هذا السقف... لكنها تبقى في ظل الظروف السياسية الحالية دون قرار الصدام المباشر مع إسرائيل، أو حتى التسبّب بارتفاع التوتر الأمني بين الطرفين على الساحة السورية. ويؤكد الأداء الروسي حرصه على تفادي أي مسار من هذا النوع، لكن من دون أن يكون على حساب مصالحه.
في المقابل، أخطأت إسرائيل في تقديرها بأن تمسّكها بسقف التنسيق وفق الصيغة السابقة سيجبر الروسي على التكيّف مع الموقف الإسرائيلي، وأنه سيكتفي ببعض المواقف والخطوات الاستعراضية التي تمتص حالة الغضب التي سادت الشارع الروسي، بفعل الخسارة المؤلمة والمسّ بالهيبة الروسية، من دون أيّ ترتيبات عملانية.
ومن الواضح أنه لو تكيّف الجانب الروسي مع السقف الإسرائيلي لكان وجّه رسالة ضعف ستكون لها تداعياتها التي توسع من هامش الاعتداءات الإسرائيلية بما يتجاوز الخطوط الحمراء الروسية في مراحل لاحقة. أما الآن فبات الإسرائيلي يدرك جيداً أن للطرف الروسي موقفه الحازم في ما يتعلق بمصالحه المباشرة، وهو ما سيكون حاضراً على طاولة القرار في تل أبيب لدى دراسة خياراتها العدوانية الواسعة على الساحة السورية.
رغم ما تقدم، فإن ما حصل لن يردع إسرائيل عن مواصلة اعتداءاتها على الساحة السورية التي ستكون من الآن فصاعداً، أكثر حذراً. انطلاقاً من أن تل أبيب ترى بأن استمرار هذه الاعتداءات هي الحد الأدنى الذي لا تستطيع التراجع عنه، كون البديل عنه تعاظم المخاطر على أمنها القومي انطلاقاً من الساحة السورية وعبرها، وتحاول من خلاله أيضاً التأثير على صياغة أي ترتيب سياسي وأمني يرتبط بمستقبل الساحة السورية.
بلحاظ المحطات التي توالت منذ تدخّل الجيش الروسي إلى جانب محور المقاومة، يتضح أنه في الوقت الذي حرص الطرفان على أحسن العلاقات، هناك مساحة من التعارض بين مصالح الطرفين على الساحة السورية قد تتسع وتضيق بفعل التطورات السياسية والميدانية، خاصة أنها تتأثر بأكثر من عامل متصل بالساحة السورية وأيضاً بالساحتين الإقليمية والدولية.