وسط مدينة دمشق، ثمّة فندقٌ يقدّم مزيجاً فريداً من البذخ والفاقة. مدخل الفندق أنيقٌ بلا تكلّف، معظمُ طوابقه في حالة مأسويّة من التهالك وتراكم الأعطال، ثمّة طابقٌ واحدٌ «مُحدّث» فيه. إذا طلبت من عامل الاستقبال معاينة الغُرف المتوافرة بنوعيها (قديم، ومحدّث) سينبّهك سلفاً إلى «الاختلاف الكبير» بينهما في كل شيء، وهو أمرٌ ستثبتُه لك المعاينة. في الطوابق العاديّة كلّ شيءٍ سيّئ: النظافة، الرائحة، شكل الجدران، أثاث الغُرف.. إلخ. ستلزمُك خطوات صغيرة فقط لتنتقل إلى «المُحدّث» لتنقلب الصورة جذريّاً: ديكوراتٌ صارخةُ الحداثة، إنارةٌ موزّعة في شكل أنيق، روائحُ زكيّة فوّاحة، وأثاثٌ مُفرطُ الأناقة. إن كنتَ مستعدّاً لتحمّل تكلفة «المحدّث»، يمكنك اختيار واحدةٍ من غرفه الباذخة، وبمجرّد أن تغلق عليك بابَها الخشبيّ السّميك، سيختفي صوت بكاء أطفال جيرانِك في الطبقات العاديّة، وتستسلم لـ«الفخامة» من حولك، وتوهم نفسك بأنّ الوضع «مثاليّ، وعلى ما يُرام».
دمشق التناقضات
يختصرُ الفندق حال دمشق، عاصمة الوطن «الذي ليس فندقاً». دخول العاصمة من بوّابتها الشماليّة الشرقيّة ليلاً لن يعكس لك صورة رومانسيّة على الإطلاق. الظلام سيكون رفيقك على امتداد الأوتوستراد المقابل لدوما، ثمّ حرستا، حتى مدخل «البانوراما» وصولاً إلى أوتوتستراد العدوي الغارق بدوره في العتمة. لا تشغل بالك في التساؤل عن الحكمة من ترك مدخل العاصمة من دون أنوار، ربّما كان لدى «المحافظة» أسبابها، كحجب مشهد الدمار عن ناظريك، أو تذكيرك بأنّ الحرب لا تزال هنا، أو تقنين المصروفات، أو حتى الإهمال! تتجاوز «العدوى» إلى وسط العاصمة وقد تغيّرت الصورة قليلاً. لديك الآن خيارات عدّة: يمكنك التوجّه نحو أحد الأحياء الأنيقة: المالكي، أبو رمّانة، الروضة، فتشعر بأنّ «كلّ شيء على ما يرام». أما إذا كنتَ «وجه فقرٍ» أو «غاوياً» له، فلتقصد أحد الأحياء الفقيرة المهملة، وما أكثرها، ولتعاين الصورة الأوسع بمأسوية أحوال أبنائها وبيوتهم وشوارعهم.
حتى المدينة القديمة لم تعُد نظيفة كما هي صورتها في الأذهان


البحث عن «حاوية»!
إن كنتَ من عشّاق المشاوير الشعبيّة، وأحببت أن تتلذّذ بـ«صحن كنافة» اشتريتَه من أحد المحال في منطقة «البحصة» بينما تتمشّى في ليل دمشق، فاعلم أنّ «مهمّة مستحيلة» تنتظرُك بمجرّد التهام الكنافة. عليك الآن أن تجد حاوية أو سلّة مهملات لترمي فيها الصحن البلاستيكي. تتجاوز البحصة، مروراً بـ«ساحة المحافظة»، تعبر «شارع البرلمان» مدهوشاً للأوساخ (ليست أكواماً لكنّها لا تشبه دمشق)، يلفت انتباهك أيضاً شكل إسفلت الشارع أمام «مجلس الشعب» بتشققاته ومنحنياته الغريبة. تعبر سوق الصالحيّة من أوّله إلى آخره، تنعطفُ نحو شارع الحمراء، تصلُ الشعلان، فتعثر على ضالّتك أخيراً: سلّة مهملات مثبّته على عمود إنارة! لا تكاد تصدق أنك عبرت كل تلك الشوارع من دون أن تصادف واحدة، باستثناء ما يضعُه بعض أصحاب محال المأكولات أمام دكاكينهم. قد تتساءل مجدّداً عن أسباب ودوافع «المحافظة والبلديّة»، لكن عليك أن تمتلك من الذكاء ما يجعلك واثقاً بأنّك لن تعثر على إجابة منطقيّة واحدة. «لم ترَوا شيئاً بعد»، يقول حسن تعليقاً على وضع النظافة المتردّي، ويضيف «اذهبوا قليلاً نحو الأطراف وستجدون العجب، حتى المدينة القديمة لم تعُد نظيفة كما هي صورتها في الأذهان». تتدخّل سعاد «لا أنصح أبداً بالذهاب إلى جرمانا (وهذه تابعة لمحافظة ريف دمشق)، فهناك ستعرفون معنى: أكوام النفايات».

الركض المتأخر
صباحاً نقطعُ أوتوسترادات العاصمة الرئيسيّة، بأنفاقها وجسورها. تلفت انتباهنا أعمال الحفريّات الكثيرة، قبل أن نكتشف أنّها أعمال «طارئة» بغية تصريف مياه الأمطار ومنعها من إغراق الأنفاق كما حصل مرّات عدّة في الآونة الأخيرة. على ألسن الناس تحضرُ عبارات متشابهة لدى الحديث عن الموضوع، يتقاطع معظمها عند السخريّة «ما كان عندهم خبر إنو في شتوية هالسنة»، «كل الحق على المطر، معقول تشتّي بتشرين يا زلمة!»، «المؤامرة مستمرّة والأعداء الكونيّون بدهم يغرقونا»... إلخ. يُذكّر بعض المعلّقين بأنّ غرق شوارع دمشق في الفترة الأخيرة لا يُشكّل سابقة، وبأنّ حالات مشابهة وقعت في الشتاء الماضي، «بس هديك السنة كان في أسباب وطنيّة، كانوا مسكرين مصارف المياه مشان الإرهابيين ما يتسللوا منها»، يقول أحدهم متصنّعاً الجديّة.

«ماذا صنعتم بالذهب»؟
ثمة الكثير مما يقال ويستلزم ريبورتاجات وريبورتاجات لشرحه، ثمّة الكثير مما تكتمه قلوب أبناء دمشق وسكانها، تُحجم أفواههم عن الخوض فيه وتفضحه عيونهم. نستعير من الكبير أنسي الحاج عبارة ونستأذنه في إضفاء تعديل صغير عليها كرمى لدمشق «ماذا فعلتم بالوردة»؟