حتى وقت قريب، كان محظوظاً من يجد منزله لا يزال قائماً في المناطق المنكوبة. فعلى الأقل، باستطاعته أن يعود للإقامة فيه بعد إجراء بضعة إصلاحات، والتخلّص تالياً من عبء الإيجارات المرهقة. لكن مع حدوث انهيارات «مميتة» في بعض الأبنية السكنية، وصدور تحذيرات رسمية من وقوع أخرى، أصبحت المنازل المدمّرة اليوم، كلياً أو جزئياً، في كفّة واحدة، لجهة انتفاء الجدوى من إمكانية إعادة إصلاحها، ودرجة خطورة كلّ منها على حياة شاغليها.وفيما كانت وسائل الإعلام مشغولة بانهيارات حلب وخسائرها البشرية والمادية، كانت شدّة الرياح تسبب ليلاً انهيار ما بقي من بناء سكني متصدع مؤلف من ثلاث طبقات في إحدى المناطق المدمرة. حدثٌ أرعب السكان العائدين إلى المدينة المحررة، ولا سيما أن الشقق السكنية التي يشغلونها ترسل بين الفينة والأخرى إنذارات سلبية بشأن وضعها الإنشائي المتضرر، من تساقط للأحجار التي تكسو الواجهة الخارجية لتلك الشقق، إلى التشققات التي تكثر يوماً بعد يوم في جدرانها وشقوقها.
قبل عدة أشهر، عاد قاسم وعائلته إلى مدينته في ريف دمشق. كان منزله الواقع في بناء سكني مؤلف من عدة طبقات لا يزال قائماً. لذلك، مع بعض الترميمات، أصبح المنزل ظاهرياً قابلاً للسكن. لكن شاءت الأقدار كما يروي شقيق قاسم لـ«الأخبار»، أن يسقط حجر من واجهة ذلك البناء على رأس قاسم، مسبباً له كسوراً في الجمجمة، مضيفاً أن «تساقط الأحجار بات اعتيادياً، إضافة إلى أنه مع كل موجة أمطار تتعرض لها المدينة، تبدأ المياه بالتسرب إلى داخل الشقق السكنية نتيجة التشققات الموجودة»، والناجمة عن المعارك التي دارت في شوارع المدينة قبل تحريرها. مثل هذه الحوادث وغيرها تدفع كثيرين إلى الجزم بأن جميع المناطق السكنية التي شهدت معارك عسكرية بحاجة إلى إعادة بناء كاملة؛ إذ إن أبنيتها الناجية من التدمير لم تنجُ من التصدع الإنشائي، وآثار ذلك ستظهر عاجلاً أو آجلاً.

تحدّيات لوجستية كثيرة
تتباين التقديرات في عدد المنازل التي تعرضت على مدى سنوات الحرب الثماني الماضية للتدمير الكلي أو الجزئي. ففيما تتحدث الأرقام «المتفائلة» عن تضرر نحو 1.5 مليون منزل في جميع المناطق السورية، تؤكد الأرقام «المتشائمة» تجاوز الرقم مليونَي منزل. كذلك الأمر بالنسبة إلى تقديرات قيمة الأضرار التي لحقت بالمباني أو بقطاع البناء والتشييد عموماً. فاللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، «أسكوا»، قدّرت في تقريرها الأخير قيمة الأضرار التي لحقت بالمباني والبنى التحتية بأكثر من 90 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الحرب. أما «المركز السوري لبحوث السياسات» فيشير في تقريره الأخير، الذي حمل عنوان «التشظّي»، إلى أن خسائر قطاع البناء شكلت ما نسبته نحو 4% من إجمالي تقديرات الخسائر المتراكمة في الناتج المحلي الإجمالي، والبالغة بنهاية عام 2015 نحو 163 مليار دولار.
ومع انحسار الحرب عن مناطق واسعة من البلاد، فإن أكثر ما يضغط شعبياً على أولويات الدولة في المرحلة المقبلة يتمثل في إعادة إعمار المنازل المدمرة كلياً وجزئياً، وذلك بغية توفير المأوى الآمن لأكثر من مليون عائلة فقدت منازلها تماماً أو تضرّرت. لا بل إن الصورة المطبوعة في أذهان الناس لعملية إعادة الإعمار تكاد تُختصر دوماً بإزالة ركام الحرب من المدن والمناطق السكنية، وبنائها من جديد وفق مخططات عمرانية عصرية، وهذا بالفعل ما حفّز شركات محلية وأجنبية على توجيه اهتمامها الاستثماري نحو قطاع العقارات، وتحديداً ما يتعلق ببناء المساكن والضواحي السكنية، وطرح مشروعات طموحة، بدليل العروض المقدمة أخيراً من شركات روسية وصينية لتنفيذ وحدات سكنية بكلفة اقتصادية متدنية، والاتفاق السوري ـــ الإيراني على تأسيس شركات مشتركة من أجل إعمار الوحدات السكنية، والمشاريع السكنية ذات البعد التنموي في سوريا.
تتحدث الأرقام «المتفائلة» عن تضرر نحو 1.5 مليون منزل


لكن الأمر ليس بتلك البساطة، فثمة تحديات عديدة ستظهر تباعاً، بدءاً من الحاجة إلى تمويل كبير لبناء ما لا يقلّ عن مليون ونصف مليون شقة سكنية تمثل الحاجات الوطنية، وانتهاءً بالأولويات والأهداف التي تضعها شركات الاستثمار العقاري نصب عينيها عند طرحها أي مشروعات استثمارية عقارية. وبحسب المهندس رشاد كامل، الخبير المتعاقد مع الأمم المتحدة، فإن «بعض المناطق المحيطة بالمدن الرئيسية ستكون مغرية للشركات للاستثمار فيها، لكن القسم الأخطر من إعادة الإعمار، والخاص بالمناطق التي كنّا نسميها شعبية أو ريفية بعيدة، لا أظنّ أنه سيجد أي مستثمر، فهل ستُترك لتعود حاضنات للمظلوميات التنموية والعنف؟ أم ستُترك لتصبح مخيمات تنمو تدريجاً وتتحول إلى مدن مخالفات؟». ويذهب المهندس كامل، في قراءته للتحديات التي ستواجه عملية إعادة بناء منازل السوريين المدمرة، إلى توقع حدوث نزاعات على الملكيات العقارية لأسباب عدة، مستنداً في ذلك إلى تجربته مع الأمم المتحدة عام 2014 في مدينة عدن اليمنية لدراسة الأراضي التي صودرت بعد حرب عام 1994؛ إذ تبين بعد عشرين سنة من تلك الحرب، أن حجم الخلافات الناشئة عن المنازعات حول أراضٍ وعقارات تجاوز، بسهولة، عتبة 350 ألف قضية في عدن فقط، معظمها عملياً فيه ملكيات مركبة، أي إن هناك أكثر من شخص يملك المكان، والأمم المتحدة تقدّر أن الرقم في سوريا قد يتضاعف عشرات المرات عمّا واجهته في عدن.

العبرة بالتكلفة
تحكم ملفَّ إعادة بناء المساكن والمباني المدمرة في سوريا، اليوم، ثلاثةُ عوامل أساسية. الأول يتعلق بالتكلفة الاقتصادية للمسكن وقدرة مختلف الشرائح الاجتماعية على تحمل تلك التكلفة، خاصة أن إعادة بناء المنازل وتوزيعها لن تكون مجاناً في مرحلة إعادة الإعمار. والعامل الثاني يتمثل في توافر التمويل اللازم لبناء احتياجات البلاد من المساكن، وهو رقم لن يكون من السهل توفيره بالتزامن مع دخول الحرب مرحلة الحصار الاقتصادي. أما العامل الثالث، فهو خاص بسرعة الإنجاز المتحقق، وضرورة التزام برنامج زمني محدد بالنظر إلى الطلب المتزايد على السكن من جهة، وإلى نتائج التجربة السابقة للجمعيات والاتحادات السكنية من جهة ثانية.
وربما هذا كان سبباً رئيسياً في المشروع الحكومي الأخير، المتمثل بالتوجه إلى بناء شقق سكنية صغيرة في محافظة ريف دمشق، تراوح مساحتها بين 40 و60 متراً. كذلك الأمر بالنسبة إلى الاشتراط الواجب على شركات التطوير العقاري التزامه. فبحسب ما يذكر مصدر خاص في الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري الحكومية، «تشترط الهيئة على شركات التطوير العقاري، عند تقديمها لمشروعاتها السكنية، ألّا تقل نسبة المساكن ذات الطابع الاجتماعي عن 70% باستثناء المشروعات التي لها طبيعة خاصة». ويتوقع المصدر أن يشهد العام الحالي «بدء تنفيذ أول ضاحية سكنية من بين 25 منطقة تطوير عقاري محدثة بموجب قرارات صادرة عن رئيس الحكومة منذ سنوات ما قبل الحرب وخلالها، وغالباً فإن تكلفة أي مشروع بهذا المستوى لن تقلّ عن 20-30 مليار ليرة». هذا في الوقت الذي عادت فيه شركات خاصة وجمعيات تعاونية لاستكمال بعض مشاريعها السكنية التي بدأت بتنفيذها قبل الحرب، أو المباشرة بتنفيذ مشاريع جديدة. لكن تبقى العبرة في كل المشاريع المعلنة، في مدى قدرة العائلات على الحصول على منزل يعوّضها عن ذلك الذي فقدته بسبب الحرب، ولا سيما في ظلّ تراجع دخول شريحة واسعة من السوريين، وتبخّر مدخراتهم المالية.



«مبادرات أهلية» أيضاً
اللافت في «ضوضاء» الحديث عن إعادة بناء المناطق السكنية المدمرة، دخول المبادرات الأهلية، التي تأسّست في زمن الحرب، على خط إطلاق رؤى وتصورات لمجمعات سكنية عصرية متكاملة، وهو أمر يدفع البعض إلى التشكيك في جدية هذه الطروحات أو قدرة أصحابها على وضعها موضع التنفيذ، وذلك في ضوء التحديات التمويلية التي تواجه مشروع إعادة الإعمار بكل قطاعاته، والتي تزداد حدة حالياً مع دخول الغرب مرحلة تطبيق الحصار الاقتصادي. إلا أن بشرى ديب، المسؤولة عن العلاقات العامة في «تجمع سورية الأم»، تؤكد أن المشروع الذي أعلنته المؤسسة أخيراً لديه مصادر تمويل متنوعة، وسيُنفَّذ ضمن مدة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات. والمشروع المذكور المسمى «مدينة الزيتون»، يتجه نحو المساحات غير المستثمرة وغير المأهولة في البادية السورية، ويتألف من وحدات سكنية وخدمية ومرافق عامة ومشروعات إنتاجية متعددة، أبرزها تأسيس مبقرة تضم 50 ألف رأس حلوب، وإقامة مصنع لإنتاج الألبان والأجبان والحليب المجفف وغيرها. يعلّق مصدر خاص في «هيئة الاستثمار السورية» على المشروع المطروح بالتأكيد أن الأمر لا يتعدى إلى الآن مجرد طرح فكرة جيدة وفق ما حملته من أهداف، ولم تحصل على التراخيص المطلوبة، وبالتالي إن الحكم على جدوى مثل هذه المشاريع يبقى مرهوناً بالإجراءات التنفيذية على الأرض.