«الستاتيكو» الذي كُسر في حماة وإدلب، ضرب موعداً لمصير مشابه في «شرق الفرات». ثمّة فارق جوهري بين الحالتين، ففيما يعلو صوت السلاح على أي صوت آخر في الحالة الأولى، يُنتظر أن تأتي الانفراجة على شكل «صفقة» سياسية ما، تُحدث ثقباً واسعاً في جدار الجمود المهيمن على المشهد شرقاً. لكن السؤال الأبرز هو: ما طبيعة الصفقة؟ ومَن سيعقدها مع مَن؟لا يبدو أن الجمود الذي يعيشه ملف مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» سيستمرّ طويلاً. ثمة حالة استعصاء ظاهرية كانت قد هيمنت على الملف في أعقاب تفريغ «تغريدة» الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حول انسحاب قوات بلاده من مضامينها، لكن الحراك لم يهدأ في الكواليس، في ظل سعي كلّ من اللاعبين الفاعلين إلى إعادة صوغ معادلة «شرق الفرات» وفقاً لمصالحه. وتتضافر عوامل عدة على تكريس حقيقة مفادها أن استمرار المشهد في صورته الراهنة يبدو أمراً متعذّراً، في مقدمها اتساع رقعة سيطرة «قسد» بما يتجاوز قدرتها على ضبطها، ولا سيما في ظل تعدد الأطراف القادرة على التأثير والاختراق. وحتى الآن، لا تزال كفّة واشنطن راجحة بوصفها الطرف الأكثر تأثيراً في معادلات شرق وشمال شرق سوريا، بفعل وجود قواعدها الاحتلالية على الأرض، وقدرتها الكبيرة على توجيه بوصلة «قسد». لكن دوام هذا الحال يبدو مُحالاً، إلا إذا رغبت واشنطن في زيادة انخراطها العسكري والأمني، مع ما يتطلبه ذلك من زيادة عديد جنودها على الأرض، وهو إجراء دونه عقبات كثيرة. ويشكل ازدياد الاختراقات الأمنية واحداً من أشدّ التحديات التي تواجه «قسد»، ومن خلفها الاحتلال الأميركي (سواء في شكل تفجيرات، أو هجمات ينفذها مسلحون، بعضهم يتبع تنظيم «داعش»، وبعضهم الآخر مجهول).
وإذا كانت واشنطن قد أفلحت حتى الآن في استثمار العداء الوجودي بين حليفها التركي، والمكون الكردي في «قسد»، فإن مواصلة إدارة هذه اللعبة بنجاح تتطلب حلاً لعقدة «المنطقة الأمنية»، التي يتزايد الإصرار التركي على خلقها. وينبغي الأخذ في عين الحسبان أن تبويب ملف «شرق الفرات» بأكمله ضمن تفرّعات «المسألة الكردية» ليس دقيقاً، في ظل التداخل الكبير بين «ملف أكراد سوريا» و«ملف العشائر». وضمن هذا الإطار، بدأت في الارتسام أخيراً ملامح «صفقة» تعكف واشنطن على هندستها بين أنقرة و«قسد». وبحسب ما تشير إليه المعطيات، تلحظ الصيغة المطروحة «إنشاء منطقة آمنة بمحاذاة الشريط الحدودي، تتولى حمايتها قوات أطلسية، ومجموعات عشائرية منضوية في قسد». ووفقاً للمعلومات المتوافرة، لا يزال الاختلاف قائماً في شأن كثير من التفاصيل، من بينها عمق المنطقة المُقترحة، وطبيعة قوات الحماية، وتبعية عناصرها.
يشكل ازدياد الاختراقات الأمنية واحداً من أشدّ التحديات التي تواجه «قسد»


يؤكد المتحدث باسم «العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية»، كمال عاكف، وجود «مساع أميركية مستمرة لخلق نوع من التوازن والتفاهم في هذا الملف، أو على الأقل لتخفيف الحساسية التي تختلقها أنقرة». ويقول عاكف لـ«الأخبار» إن «أنقرة طرحت في لقاءاتها مع واشنطن جملة نقاط، كانت مرفوضة من قِبَل الإدارة الذاتية». يعزو المتحدث الرفض إلى أن تلك النقاط «ليست طريقاً للحل أو التفاهم، بل تنبع من تفكير أنقرة بمنطق أحادي». ويضيف أن «الأميركيين يحاولون الوصول إلى حل وسط. المشكلة ليست عندنا، بل عند أنقرة. المساعي الأميركية مستمرة، لكن حتى الآن لا توجد نتائج عملية ولا تفاهمات فعلية يمكن الحديث عنها».
برغم ما تقدم، يقول عاكف، «قد يحصل تفاهم في الأيام القادمة. وفي جميع الأحوال، نحن حريصون بشدة على حدوثه بما يضمن الاستقرار، وعدم نسف ما تم إنجازه في إطار محاربة الإرهاب. لا بد من تغيير منطق تركيا في التعامل معنا، وكفّها عن تلفيق الاتهامات للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديموقراطية». يؤكد المتحدث أن الدعوة التي أطلقها الزعيم الكردي، عبد الله أوجلان، من سجنه قبل أيام، حول ضرورة اعتماد «السياسة طريقاً للنضال»، رهن التنفيذ منذ زمن طويل. ويقول إن «التركيز على ضرورة الحل والحوار السلمي، هو أحد أهم المبادئ الأساسية التي تعتمدها إدارة شمال وشرق سوريا بكل تنظيماتها العسكرية والسياسية والاجتماعية... ونقوم بخطوات جدية لإنجاح الحوار والمفاوضات»، ويضيف: «كان لدينا حرص منذ عامي 2011 و2012 على علاقات جيدة مع المحيط الإقليمي بما في ذلك تركيا، لكن أنقرة أصرّت على طرق وأساليب أخرى».
في المقابل، ثمة مشاريع لتفاهمات معاكسة بين دمشق و«قسد»، تُكملها مشاريع بين موسكو وأنقرة. لكن المجريات على هذا الصعيد تعاني من عثرات عدة، على رأسها حجم التأثير الأميركي. يكرّر عاكف ما دأب على ترداده مسؤولو «الإدارة الذاتية»، ويقول: «قمنا بلقاءات كثيرة بغية تفعيل الحوار مع دمشق. لكن، كما قلنا مراراً، هناك إصرار من دمشق على النظر إلى واقع سوريا كما لو كنا قبل 2011». اللافت، في مشاريع التوافقات بين دمشق و«الإدارة الذاتية»، عدم اقتصارها على مناطق «شرق الفرات». إذ تحتلّ منطقة تل رفعت (ريف حلب الشمالي) مكاناً مهماً ضمن هذه المعادلة، نظراً إلى مجاورتها منطقة عفرين، الخاضعة للاحتلال التركي. وتأخذ إحدى صيغ التفاهم المطروحة في الاعتبار أهمية تل رفعت، لـ«إطلاق معركة تحرير عفرين، ولو بعد حين». ينفي السياسي الكردي، ابن منطقة عفرين ريزان حدّو، علمه بتفصيلات من هذا النوع. لكنه يشير في الوقت نفسه إلى خصوصية تل رفعت، وتعقيداتها، بوصفها منطقة مفتاحية. يستبعد حدّو أن «يُحلّ التعقيد هناك بالسياسة»، ويرى أن «تعقيدات تل رفعت لا ترتبط جذرياً بشرق الفرات، بل ترتبط أكثر بملفَّي عفرين وحلب». ويضيء هذا التفصيل ــــ جزئياً ــــ على المعركة التي شهدتها المنطقة قبل أيام، في محاولة تركية لتغيير خريطة السيطرة هناك. ثمة معلومات لم تُنشر في وسائل الإعلام حول تلك المعركة، خلاصتُها أن التقدم الذي حققته المجموعات العاملة تحت راية أنقرة، أول الأمر، كان أكبر مما تم الحديث عنه. لكن «رد الفعل كان حاسماً، وانطوى على هجوم معاكس ساحق أعاد الأمور إلى نصابها». وتُشكل منطقة تل رفعت لساناً جغرافياً، يتاخم مناطق الاحتلال التركي المعروفة بـ«درع الفرات» من جهة، ونظيرتها المعروفة بـ«غصن الزيتون» من جهة أخرى. كما تفصل تل رفعت بين تلك المناطق، وبين بلدتي نبّل والزهراء. وتؤكد مصادر من محيط تل رفعت أن «من يتولى الدفاع عن المنطقة، هو الجيش السوري، وعدد من القوى الرديفة التي تعمل تحت قيادته».