يوم سمحت السلطات السورية بعودة المهجّرين إلى حيّ برزة شمال دمشق، عقب انتهاء المعارك فيه بشكل كامل، توجّه حسام، مباشرةً، لمعاينة منزل العائلة. أوصت أم حسام ابنها البكر بأن يصطحب معه أثناء عودته بعضاً من «ملاقط الغسيل» التي تركتها على الشرفة. كانت السيدة ترغب في إشباع شوقها إلى كل تفصيل من تفاصيل بيتها مهما صَغُر. تستذكر أم حسام، الحاجة الخمسينية، كل لحظة من لحظات تاريخ 16 آب 2012، يوم تركت «عزّها في منزلها». تقول: «كان شهر رمضان. كنا صائمين، ودرجة الحرارة تجاوزت الأربعين»، وتضيف: «في العاشرة صباحاً خرجنا جميعاً. اصطحبتُ معي بعض الأغراض الشخصية والأوراق الثبوتية. لم يكن المجال يسمح بإخراج المزيد. كنتُ أظن أن غيابنا سيمتدّ أسبوعاً أو اثنين. لم أتوقع يوماً أن أغيب عن منزلي ست سنوات كاملة!». عاد حسام بعد سبع ساعات مُحمَّلاً بالخيبة. وجد الشاب بعض ملاقط الغسيل، لكنه لم يجد الشرفة التي أودت بها قذيفة! لم يتكلّم حسام طيلة ساعتين بعد مجيئه، كانت الصور التي التقطها تكفي لتشرح أحوال البيت، ويعلو صوت نحيب أمه. أصرّت أم حسام على معاينة الأضرار بنفسها، فتوجهت صبيحة اليوم التالي إلى برزة. تقول لـ«الأخبار» بحرقة: «أردت أن أشاهد لأصدق. الصدمة كانت كبيرة. معظم الأغراض مسروقة، والبيت في حالة يُرثى لها». وعلى رغم أن أم حسام «محظوظة» لأن منزلها قابل للإصلاح والسكن بعد الترميم، فإنها تقول: «لن أعود. لفظني المكان الذي عشتُ فيه ثلاثين سنة. بيتي الجميل لا يشبه ذلك البيت الذي أقسمتُ ألا أزوره مرة أخرى، والمنطقة لا تشبه المنطقة. سنبيع المنزل في أقرب فرصة ممكنة».
«أخشى النوم هناك»
على رغم الدمار المهول الذي يهيمن على مدينة حرستا في الغوطة الشرقية، فإن منزل حسن (اسم مستعار) نجا بأعجوبة. جدرانه موجودة، وسقفه مكتمل، الشرفة قائمة ومطلة على جامع «الشيخ موسى». والشارع المجاور بات نظيفاً بعد عمليات إزالة الركام. عاد عدد من سكان منطقة السيل في حرستا، بِمَن فيهم كثير من سكان البناء الذي يقطنه الشاب الثلاثيني، لكن حسن لم يعد، فما زال «خوفه في جوفه». ينتمي حسن إلى إحدى أقلّيات العاصمة، لكنه توجّه إلى حرستا قبل عشر سنوات، بعد أن وجد فيها مناله لرخص أسعار عقاراتها وقربها من دمشق في الوقت نفسه. يقول مستذكراً ظروف نزوحه: «تلقّيت كثيراً من التهديدات، ولم أكن أكترث لها. لكنني استيقظتُ يوماً لأجد كفّاً من الدم مطبوعة على باب داري، وورقة نعي باسمي، وإلى جانبها تهم بالكفر والخيانة والعمالة، وبعض العبارات الطائفية. عرفتُ حينها أن الوقت أذن بالرحيل». ويضيف: «خُطف ابن عمي، ثم قُتل لأن اسمه يوحي بمذهبه، وخشيتُ أن تتكرّر التجربة. زرتُ منزلي مرات عديدة في الآونة الأخيرة، لكنني لا أبقى أكثر من ساعة أو ساعتين. أخشى النوم هناك». يعترف الشاب بأنه «قد يكون مبالغاً في مخاوفه»، لكنه بات يشعر بأنه «غريب عن المكان والسكان». يقول: «كان أصدقائي يطلبون مني الخروج في التظاهرات، وكنتُ لا أفضل ذلك، فهجرني معظم أهالي المنطقة، وتوقفوا عن زيارتي ومحادثتي. حتى صاحب الدكان امتنع عن بيعي الأغراض، وبقيتُ مكروهاً من محيطي». وعلى غرار حالة حسن، أُعيد رسم جزء من ملامح دمشق بعد سنوات الحرب. لم يرجع كثير من أبناء الأقليات إلى المناطق التي كانوا يسكنونها، وفضّلوا الاستقرار في أماكن تجمعهم، والتكتل في «كانتونات مذهبية» تكون أحياناً غير معلنة، وأحياناً أخرى تفضحها مظاهرها.
أُعيد رسم جزء من ملامح دمشق بعد سنوات الحرب


«الكهرباء هي الحياة»
على عكس أم حسام، وحسن، يزور أنطوان نعمة منزله يومياً. أعاد ابن بلدة عربين في الغوطة الشرقية افتتاح دكّانه هناك، لكنه لم يعد وعائلته للسكن بعد، إذ لم يتمكن من العيش في ظروف البلدة الحالية. يسهم نعمة في عمليات ترميم الكنيسة الوحيدة في عربين، بعد أن أكمل صيانة بيته بشكل كامل. يقول: «أنا متشوّق للعودة مع عائلتي في أسرع وقت، لكن الخدمات والبنى التحتية في البلدة بحاجة إلى الكثير كي تصبح مقبولة. معظم أنابيب المياه بحاجة إلى صيانة، الكهرباء ضعيفة والانقطاعات طويلة. أنا شخصياً يمكنني العيش تحت أي ظرف، لكن الكهرباء بالنسبة إلى أولادي وزوجتي تعني الحياة». ويرغب كثير من أبناء البلدة في العودة إليها فور عودة الخدمات، بعد أن أرهقتهم الإيجارات المرتفعة في دمشق (قد تصل إلى 300 ألف ليرة للمنزل الواحد شهرياً). يؤكد نعمة أن العودة معلّقة «حتى إشعار آخر»، وهي رهينة تحسّن الوضع الخدمي.

«كنيتي... تهمتي»
يبدي أحمد (اسم مستعار) رغبة «منقطعة النظير» في العودة إلى منزله في مدينة داريا «ولو كان تراباً». يقول لـ«الأخبار» عبر الهاتف: «أريد العودة إلى منزلي وأرضي، سأعمل هناك وأعيد بناء غرفة صغيرة أعيشُ فيها، لكن الموافقة لم تأتِ بعد». ينتظر أحمد ورود اسمه في قوائم الأسماء التي تصدر دورياً، ليُسمح له بالدخول إلى داريا، بعد أن خرج جميع سكانها منها خلال سنوات الحرب. يؤكد الشاب الثلاثيني أن «الواسطات والمحسوبيات» هي التي تحكم تسجيل معظم الأسماء، فملفه «نظيف» أمنياً، لكنه ينحدرُ من عائلة نشطت خلال الحراك والتظاهرات، الأمر الذي يظنّه سبباً يحول بينه وبين عودته. يقول: «تهمتي كُنيتي». يؤكد أحمد أن مئات العائلات تنتظرُ موافقات أمنية كي تعود إلى داريا، أو وادي بردى أو عين الفيجة في الغوطة الغربية.

«لا شيء اسمه القابون»
تهدم في الحرب الكثير من البيوت، لتخلق في الوقت نفسه روايات وذكريات لا تموت بالقصف أو القذائف. يؤكد عزت محجوب، ابن حي «القابون»، أن عودته إلى منزله «باتت مستحيلة». يختصر حكايته وحكاية حيّه بكلمتين اثنتين: «ما بقي شي اسمو حي القابون... ما بقي».