قبل فترة قصيرة، كنت في مدينتي حلب التي غادرتها قبل 50 عاماً إلى إسطنبول للدراسة الجامعية. تكفي جولة بسيطة وسط المدينة القديمة، ومشاهدة العدد الكبير من المنازل المهجورة والمحال المغلقة والكنائس المدمرة، لإدراك حجم هجرة المسيحيين والأرمن. يقول العجائز إن هذه الهجرة التي عصفت بالمدينة نتيجة الحرب هي الأشد منذ عقود، وخصوصاً بعد مرحلة الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي (2004 - 2010) الذي ساعد على ازدهارها بسرعة قياسية وفي جميع المجالات، ما قلّص أعداد المهاجرين إلى الحدود الدنيا. ويقدّر البعض عدد من بقوا في المدينة بحوالى 50 ألفاً، من كل الطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية، ما عدا الأرمن الأرثوذكس الذين لم يبق منهم سوى بضعة آلاف فقط، أغلبيتهم من العجائز.يصف أحد رجال الدين حال هجرة أبناء رعيته، خلال فترة الحرب القاسية التي اجتاحت المدينة (2012 - 2016)، بأنها «أشبه بالوباء الذي لم نتمكن من السيطرة عليه ولا بأي وسيلة». فالإرهاب وانعدام الأمان، إضافة إلى انهيار الاقتصاد والحصار، وفقدان أدنى مقومات الحياة اليومية من كهرباء وماء، دفع بعض السكان إلى اتخاذ قرار النزوح نحو المناطق الأكثر أمناً، كالساحل ووادي النصارى، والبعض الآخر إلى بيروت، ومن ثم بدأت بعدها رحلة التغريب المسيحية نحو أوروبا والمهجر. مع ذلك، لعبت الكنائس خلال فترة الحرب دوراً كبيراً في مساعدة العائلات المسيحية التي تضررت أحوالها، من خلال الإعانات الغذائية الشهرية، والمبالغ النقدية، وفتح ما تيسر من أعمال لتقليص مستوى البطالة، لكن هذا لا يمكنه أن يقف في وجه الخوف من المجهول والسائد حتى الآن بين الناس، ولا في وجه مغريات الحياة الكريمة التي وفرتها الدول الأوروبية وكندا للاجئين السوريين وخاصة المسيحيين.
وخلافاً لما كان متوقعاً، فالأمل بانتهاء الحرب في المدى المنظور لم يمنع المسيحيين، وخاصة من كان متردداً ويرغب بالبقاء في مدينته، من اتخاذ قرار الهجرة تحت تأثير عوامل أخرى، أهمها تغيّر الوجه الحضاري لحلب التي كانت تعرف بالأصالة والجمال والرقي. كانت حلب مدينة الثراء والرخاء والطبقة الوسطى المثقفة والمتعلمة والعائلات الأصيلة وأصحاب المهن الفريدة، لكن خلال الحرب حلّت في المدينة شرائح غريبة العادات والتقاليد، وافدة من الريف الذي كان ولا يزال يعاني من الجهل والتخلف، الذي زادته سوءاً مخلفات حكم الجماعات المسلحة طيلة السنوات الخمس من الإرهاب. يضاف إلى ذلك تعثر عمليات إعادة الإعمار، التي لو بدأت لخففت كثيراً من الضائقة المادية التي يعانيها أغلب المواطنين، وشجعتهم على فتح أعمال جديدة تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد، وتنعش الحياة في مدينة اختبرت الموت بمختلف أشكاله. يعرف الجميع أن كل ما تقدم على أهميته في كفة، وانتشار الفكر الظلامي بين فئات معينة من سكان المدينة الوافدين في كفة أخرى. فإذا افترضنا أن المدينة تحرّرت من الجماعات المسلحة بالكامل، إلا أنها لا تزال محاصَرة بفكر متطرف ومتعصب رافض للتنوع، ولا يحترم حرية الآخر وخصوصيته، وهذا بحدّ ذاته يشكل مصدر تهديد للمسيحيين أولاً (ولباقي مكونات المجتمع ثانياً). كما أنه مؤشر جدي على إمكانية اشتعال الصراع مجدداً بعد فترة من الزمن، والعراق مثال حي ومستمر في زمننا الحاضر، وهو ما يتطلب خطة عاجلة من قِبَل الدولة لمواجهة مثل هذا الاحتمال ومنع وقوعه.
دفع الجيل الثاني والثالث من الأرمن الذين تم تهجيرهم من تركيا الحالية إلى سوريا عام 1915، ثمناً باهظاً في هذه الحرب، بعدما دُمّرت أحياؤهم بنسبة 80%، كالميدان وبستان الباشا، حيث كانت على تخوم الأحياء الشرقية المحتلة من الجماعات الإرهابية التي دمّرت كنائس الأرمن والمسيحيين التاريخية. واستشهد الكثير من الأرمن بالقذائف اليومية، وخسروا أرزاقهم ومحالّهم وكل ما يملكونه، فكانت الهجرة بالنسبة إليهم باب الخلاص، كما كانت بلادهم الأم (أرمينيا) هي الوجهة الأولى. عانى الأرمن من صعوبة الاندماج في الحياة هناك، ما دفع الحكومة الأرمينية إلى إنشاء ضاحية قريبة من العاصمة ياريفان سمّتها «الشهباء الجديدة»، ليقيم فيها الأرمن الوافدون من سوريا، ما يسهل عليهم التأقلم مع واقعهم المستجد، وخلق حياة تشبه إلى حد ما تلك التي عاشوها في حلب لسنوات طويلة.
لا يعني ذلك أن المسيحيين والأرمن في حمص ودمشق وباقي المناطق السورية كانوا بشكل عام أكثر حظاً من إخوانهم في حلب، فقد كانوا جميعاً، ومعهم سوريا التي انتشر منها الدين المسيحي، هدفاً لمؤامرة كبرى لعب فيها الغرب المسيحي دوراً أساسياً، وكان أداتها الشرق بكل مجموعاته، من الدول والجماعات الإرهابية. وكان ذلك مخططاً جهنمياً لتفريغ الشرق من المسيحيين، الذين دفعوا الثمن غالياً جداً في صراع لا ناقة لهم فيه و لا جمل، طالما أنهم كانوا جميعاً مسالمين، فتحولوا إلى هدف في مشروع غربي كان المسيحيون «الصليبيون» أداته. لقد تجاهل الغرب المسيحي هذه الحقيقة، وغضّ النظر عما قام به الإرهابيون ضد إخوتهم في الدين، طالما أنهم شرقيون. لم يحرك الغرب ساكناً عندما سيطر الإرهابيون على معلولا في كانون الأول 2013، وهي التي تضم أحد أقدم الأديرة في التاريخ المسيحي. كما لم يحرك ساكناً عندما دمر الإرهابيون مقدسات المسيحيين في حمص ودمشق القديمة وباقي مناطق سوريا، حالهم حال المسيحيين في العراق، ومن قبلهم في فلسطين المحتلة، حيث اعتدى الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة على المقدسات المسيحية.
ولم يكن قرار بعض الدول الأوروبية فتح أبوابها أمام النازحين المسيحيين السوريين من منطلقات إنسانية، بل جاء في إطار مخططات جهنمية تستهدف القضاء على الهوية الدينية والثقافية والإنسانية لمسيحيي سوريا وبلاد الشام، وهو ما يفسر تشجيعهم الهجرة إلى الغرب «الإمبريالي الرأسمالي الأناني» الذي استنفر كل إمكانياته عبر الكنائس وعصابات المافيا لتهريب المسيحيين السوريين، وكذلك العراقيين، ومن قبلهم اللبنانيين إلى الدول الأوروبية، وفي مقدمها فرنسا وهولندا وبلجيكا والسويد، ليفقد المسيحيون فيها مع مرّ السنين كل خصائصهم وعاداتهم وتقاليدهم التي جعلت منهم مسيحيين يختلفون عن مسيحيي الغرب.