بتصميم وثبات، يتقدّم الجيش السوري في ريف إدلب الجنوبي، راسماً أهدافاً موضعية بنفسٍ طويل، للسيطرة على كامل المحافظة الواقعة بأيدي الفصائل المدعومة من أنقرة. أول تلك الأهداف السيطرة على خان شيخون، كبرى مدن الريف الجنوبي. «الأخبار» اطلعت عن كثب على سير العمليات العسكرية التي توجّت أمس بتقدم جديد، ليصبح للجيش موطئ قدم على أوتوستراد حماة ــــ حلب الدولي، عند تلة النمر وحاجزها.حسناً يفعل هواء المكيّف البارد مُلَطِّفاً الريح الساخنة الآتية من شُباكَيْ السيارة نصف المفتوحَيْن وهو مُحمَّل بالغبار ورائحة البارود. يقنص بعض الجنود السوريون قليلاً من النوم. يتمدّدون تحت سقوف البيوت وركامها على جانبي الطريق هرباً من لهيب شمس الظهيرة في ريف إدلب الجنوبي، بعد ليلٍ ساخن استعداداً لليلٍ أشدّ سخونة. أشجار التين المنتشرة بين البيوت بكثافة تتمسك باخضرارها الأغبر، وتعطف على الجدران المحطّمة بفيء قليل. الجنود الآخرون يستعجلون الإعداد لهجوم المساء بأجساد قويّة ووجوه سمراء بلّلها العرق، وقوافل الشاحنات والعربات والمدافع تكتظ بها الطرقات المتعبة. بعضهم يلتفت إلى السيارة. يرى الضابط الرفيع يقودها، فيقترب من الشبّاك مسلّماً عليه ومطمئناً إياه إلى أن الاستعدادات تسير بانتظام.
يرفع العقيد بيده اليسرى صوت الجهاز اللاسلكي باهتمام، ويقود باليمنى فوق الطريق المتعرجة مخترقاً بلدة كفرعين آتياً من بلدة الهبيط نحو مدايا، البلدات التي حرّرها الجيش السوري من الفصائل المسلحة، وفي مقدمها «جبهة النصرة» ومئات الإرهابيين الأجانب، قبل أيام. يزداد تركيز الضابط الرفيع وصمته وهو يسمع نداءات المراصد والجنود التي تُبلِغ عن تفجير انتحاري لعربة ملغّمة بأحد المواقع في مزرعة كفريدين القريبة، ووجود جرحى، بعد تمكّن الجيش من تفجير سيارة أولى قبل وصولها إلى هدفها. تتكثّف النداءات، ويفتح الجيش النار بمختلف الأسلحة على جبهات الإرهابيين في أقل من دقيقة، بالتوازي مع توجيه الطواقم الطبية لإسعاف الجرحى. وحين يجد الضابط حاجة إلى تدخّله، يعطي تعليماته للجنود بهدوء ووضوح، موجهاً إياهم لامتصاص صدمة التفجير، والتركيز على ما بعد الهجوم.
يعمل الضابط في قوات إدارة المخابرات الجوية التي يقود حملتها العميد الشهير سهيل النمر كرأس حربة في عمليات اقتحام مواقع الإرهابيين في ريف حماة وجنوب إدلب. قبل دقائق من التفجير، روى لضيوفه عن الرابط المعنوي والعائلي الذي يجمعه مع الجنود وغيره من الضّباط بعد سنوات من القتال كتفاً إلى كتف. فقراء أشدّاء، عيونهم تُخَبِّر عنهم: واحد من الساحل السوري، وواحد من ريف حلب وآخر من الرقة، وذاك من درعا، وهذا من السويداء. لا شعور يمكن أن يحفزّهم على هذا القتال الشرس والتسليم بالموت مصيراً مسبقاً غير حب الدفاع عن البلاد.
يربك الاقتحام في الليل المسلحين ويعطي الجنود معنويات عالية

تشتدّ المعركة، فيقرّر العقيد اختصار الجولة في مدايا سالكاً طريق العودة بدلاً من المتابعة إلى بلدات حصرايا والأربعين وزكاة وأبو رعيدة، خطوط التماس مع بلدتي كفرزيتا واللطامنة وغيرهما من آخر بلدات ريف حماة الشمالي، التي عزلها الجيش في عملياته الأخيرة، فاصلاً إياها عن ريف إدلب الجنوبي وخان شيخون، وواضعاً بذلك المجموعات المسلحة فيها بين فكّي كماشة. العقيد لديه عمل ميداني يتابعه، والأوامر ــــ للأسف ـــــ تتضمّن منع المخاطرة مع الضيوف بالدخول إلى مناطق الاشتباك الأولى. في طريق العودة إلى مقرّ القيادة، تتصاعد وتيرة القصف، وصواريخ الغراد وقذائف المدفعية تنطلق من كلّ حدبٍ وصوب على مواقع «النصرة» و«الحزب الإسلامي التركستاني» وباقي المجموعات «الجهادية» التي يدعهما ويغذيها الجيش التركي واستخباراته.
بعيداً عن ركام البيوت، يتصل السهل الفسيح الغني بالسماء في آخر الأفق شمالاً، وغرباً يشرف عليه جبل شحشبّو الوعر، الذي يقع تحت سيطرة الإرهابيين. هنا تتساوى الحقول، ينهشها العشب البري المرتفع مستفيداً من خيرها وترابها الخصب، بعدما كانت جناناً معلّقة من الكمّون واليانسون والخُضر والبطاطا، والفستق الحلبي، كنز حماة وحلب النفيس، قبل زوّار الثورة المزعومة، الأوزبك والطاجيك والقوقازيين والإيغور وباقي صنوف الإرهابيين المجمّعين في الشمال الغربي السوري.

التخطيط للهجوم الليلي
يبدو جهاز «التاب» المحمول صغيراً بين يديه وهو ينظر من خلف النظارة الطبيّة إلى خريطة العمليات ويفكّر بصمت. خمسينيٌّ أشيب، يلبس البزة العسكرية التقليدية. يفرض سطوة الرتبة والخبرة والدهاء على الضباط المجتمعين في مقرّه للتخطيط لهجوم مساء اليوم (ليل الأحد ـــ الإثنين). لكنّه يمازحهم ويراكم فوق الهيبة محبّة لا توفّر الجندي الحاجب الذي يسارع كل حين إلى توزيع القهوة والشاي على القادة. الجنرال هو من أبرز كبار القادة في حملة النمر، وقد خاض عشرات من معارك التحرير على كامل التراب السوري، والضباط العاملون معه «يفهمون عليه على النفس»، كما يقول. الجميع يحملون قلماً ودفتر ملاحظات، وهو يتلو على مسامعهم مسار التقدم المطلوب من «النمر» والقيادة، بالأمتار والإحداثيات الدقيقة. بين حين وآخر، يتدخّل الضّباط باقتراحات وأسئلة. يسمع الجنرال. يتناقشون، ثم يقرّرون التفاصيل النهائية، ويدوّنون. ساعة صباحية كلّ يوم تقريباً منذ بدء الحملة قبل نحو شهر ونصف والمشهد يتكرّر، من نجاحٍ إلى نجاح، بقوّة نارية هائلة تكاد تلامس ثلاثين ألف مقاتل وعتاد ثقيل نوعي، وأهداف محدّدة وتصميم كبير.
في جلسة أول من أمس (الجمعة)، رسم الضبّاط مع العميد النمر طريق الوصول إلى مربّع «حاجز الفقير» على تخوم خان شيخون من الجهة الشمالية الغربية، الذي يسمح بإشراف القوات السورية على الطريق الدولي حماة ــــ حلب (M5) في تلك المنطقة، من على بعد مئات الأمتار عنه. قبل مدة، قرّر الجيش حصر عمليات الاقتحام ليلاً في مناطق مكشوفة، مخفّفاً تأثير صواريخ «التاو» الغربية المضادة للدروع، التي لا يزال التركي يزوّد فصائل المسلحين بها. «الاقتحام في الليل يربك العدو ويعطي الجنود السوريين معنويات عالية ويقيهم حرّ النهار»، يقول الجنرال.

السياسة لأهلها
بالنسبة إلى الضابط الأرفع بين الحاضرين كلام السياسة لرجال السياسة؛ «نحن رجال حرب، ننفّذ تعليماتنا بالحرف من قيادتنا وتعليمات اليوم سمعتها، وروحيتنا محسومة بتحرير كل شبر من الأرض السورية، وإدلب من ضمنها، كما قال الرئيس بشار الأسد». لكن ماذا عن اتفاق سوتشي وتطوّرات آستانا؟ يجيب: «أنت تهتم لسوتشي وموتشي والمؤتمرات الدولية، (أما) أنا أهتم بكيفية استعادة الأرض وقتل الإرهابيين وطردهم خارج سوريا. الاحتلال التركي أصلاً لم ينفذ التزاماته أمام روسيا وإيران، وهو دخل الأراضي السورية غازياً بحجّة قتال الإرهاب، ووضع نقاط مراقبة في إدلب، ثمّ تحولّ محيط نقاط المراقبة إلى مواقع لاستهداف قواتنا. ما يهمني أمر واحد: تنفيذ مهمّتي والحفاظ على حياة الجنود، لأن لهم أهلاً وبيوتاً وأناساً يحبّونهم. سمعنا عن نيّة تركية لإدخال نقاط مراقبة جديدة خلال الساعات المقبلة بذريعة منطقة خفض التصعيد، لحماية الإرهابيين. (لكن) لن يحميهم أحد».
وبشأن المهمة الحالية، يقول الجنرال إن خان شيخون «أصبحت على مرمى حجر، وهي ساقطة متى قررت القيادة الدخول إليها»، مشيراً إلى أن أحد الأهداف الآنية استعادة المدينة، وبعبارة أخرى: «المهمة هي القضاء على الإرهاب في إدلب وإعادتها إلى الدولة والسيادة السوريتين وفتح الطرقات الدولية إلى حلب، وهذا أمر حتمي يجري تحقيقه بالهدوء والثبات والقضم العسكري مهما اشتدت الظروف الميدانية والسياسية». ويضيف: «يجب أن يعرف الإرهابيون أنه لا أحد سيتمكن من حمايتهم، لا (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان ولا غيره». وهو يستند إلى أن «التحرير في المرحلة الحالية مهم للغاية، فهو عمليّاً أول دخول للجيش إلى نقاط مؤثّرة في إدلب، وعنوان لإعادة مؤسسات الدولة إلى أرض المحافظة وإبعاد شبح الإرهاب عن كل المنطقة المحيطة في حماة واللاذقية والمراكز العسكرية والمدنية. وإعلان للإرهابيين أن الجيش باستطاعته الوصول إلى أي نقطة يقررها».
مع ذلك، هناك تداخل كبير في المجموعات، وهنا يروي أن «معظمها مختلط، من سوريون وجنسيات مختلفة»، مستدركاً: «مثلاً الإرهابيون الأجانب يقاتلون بشراسة والأدلّاء السوريون الذين يعاونونهم إمّا يقتلون أو يبيعون ويشترون بهم... الصينيون الإيغور سيطروا بالكامل على جسر الشغور وحوّلوها إلى منطقة مقفلة لهم، ولا ثقة لديهم بالإرهابيين السوريين، لكنهم لا يعرفون الجغرافيا ويحتاجون إلى الأدلّاء».
يعود الجنرال إلى وضع اللمسات الأخيرة على الخطة وتوزيع القوات وفق مهماتها وحاجاتها، قبل أن ينهي الاجتماع مع معاونيه. خلال الجولة، يظهر صوت العميد مرّة أو اثنتين على الجهاز اللاسلكي معطياً المعنويات لجنوده في عمليات القصف والاشتباكات المحدودة بعد الظهر. ثم ليلاً في طريق العودة، قبل منتصف الليل بقليل، يخرج من الراديو خبر سيطرة الجيش على «حاجز الفقير» وقتله أعداداً من المسلّحين الذين اعترضوا الطريق. وظهر أمس، ثبتت معلومات العميد بالوقائع عن المحاولات التركية لإدخال قوافل لحماية الإرهابيين، وعن عزم الجيش على منع أي تغيير في تفوّقه في الميدان.



«تبّاً للديموقراطية» و«العلمانية كفر»


بعبارة «إخوانكم المجاهدين»، وقّعت الجماعات الإرهابية التي كانت تسيطر على بلدات الهبيط وكفرنبودة المحرّرة عدداً من اللافتات «الإرشادية» لـ«الإخوة المواطنين» من أهالي المنطقة. لافتات لا تتناسب مع الحملات الإعلامية التي تقودها وسائل الإعلام الغربية وسيلٌ من الصحافيين والسياسيين وممثلي الدول وهم يتباكون على آلاف المسلحين الذين عاثوا تدميراً وقتلاً في المحافظة بعد طردهم من غالبية الأرض السورية. الأنكى أن هؤلاء يمضون أيامهم الأخيرة في محاولة بائسة لوقف عمليات الجيش دفاعاً عن مجموعات تنكر كل ما تدّعيه الحضارات الغربية من مفاهيم العلمانية والديموقراطية وغيرهما من أبسط الحقوق الإنسانية. ولذلك، ترك الجيش السوري تلك اللافتات معلّقة على أن تنقلها الشاشات والصحافة الغربية، إذا قرّرت أن تنقل ــــ للحظات ــــ حقيقة ما يجري على الأرض منذ 2011.