الحسكة | منذ أكثر من خمسين عاماً، يعيش سكان مدينة رأس العين السورية، شمال محافظة الحسكة، مخاوف من حصول انهيارات أرضية، نتيجة وجود تشقّقات في الطرقات والتربة، لم تستطع أي جهة حتى اليوم وضع حلول نهائية لها. وعلى رغم أن الحكومة السورية أعدّت مرات عدة دراسات حول الظاهرة بمساعدة خبراء أجانب، إلا أن الحلول التي خلصت إليها تلك الدراسات لم تدخل حيّز التنفيذ، ليبقى السكان تحت هذا الخطر الذي نشط العام الحالي بفعل غزارة الأمطار. وتعود هذه الظاهرة إلى ستينيات القرن المنصرم، التي شهدت أول حالة انهدام للتربة، نتج منها انفجار عدة ينابيع، أعطت الإشارة إلى غنى المنطقة بالمياه الجوفية، في الوقت نفسه الذي دقّت فيه ناقوس الخطر. ويروي الكثير من سكان رأس العين، عن واحد من فريق باحثين أجروا أبحاثاً بهذا الصدد في الثمانينيات، أنه رفض النوم في المدينة، ونصح الأهالي بتغيير أماكن سكنهم، لأن مدينتهم قد تنهار في أي لحظة. وتنام المدينة على مساحات واسعة من المياه، كانت تخرج سابقاً كينابيع غزيرة لطالما اشتُهرت بها رأس العين، وخاصة الينابيع الكبريتية، لتُحوّلها إلى وجهة سياحية لأغلب سكان المحافظة، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته.غابت الظاهرة أكثر من أربعين عاماً، إلا أن موجة الجفاف التي ضربت المنطقة منذ التسعينيات، والحفر العشوائي للآبار الارتوازية، أدّيا إلى حصول فراغات في التربة، شكّلت فرصة لعودة الانهيارات عام 2004، حيث وقع انهيار أرضي في شارع المؤسسة الاستهلاكية في رأس العين، وحصل تشقق بالقرب من مقرّ مجلس المدينة، ما أعاد إلى الواجهة مشكلة الانهيارات التي عادة ما تظهر تشققات في الجدران والأرض قبل حصولها. ويلفت رئيس مجلس مدينة رأس العين السابق، الباحث الجيولوجي داوود سليم بك، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «الظاهرة بدأت فعلياً في عام 2005، وذلك بسبب نقص في المياه الجوفية، ما أدى إلى حصول فراغات في تربة المدينة الجيرية الكارستية، امتلأت بالهواء، وسببت لاحقاً جفافاً في التربة وتفتّتاً داخل الصخور، وبالتالي عدم تحمّل أي ضغوطات، وحصول الانهيار». ويضيف سليم بك أن «سكان المدينة كانوا يحفرون ما بين 4 إلى 6 أمتار، ويحصلون على مياه عذبة صالحة للشرب، وهو أمر انتهى بسبب الجفاف الذي أوجد هذه الظاهرة».
عودة الظاهرة في عام 2004 دفعت الجهات الحكومية إلى اللجوء للخبراء لدراستها


عودة الظاهرة في عام 2004 دفعت الجهات الحكومية إلى اللجوء إلى الخبراء لدراستها ووضع الحلول المناسبة لها، من خلال تعاقد وزارة الري مع شركة «هيدروسكوب» الأرمنية للدراسات الجيولوجية لإعداد دراسة تفصيلية في عام 2006. وبعد عامين من العمل الميداني، أكدت نتائج الدراسة أن «المدينة مهددة بانتشار هذا الخطر بنسبة قد تصل إلى 60%»، وحذرت من أن «استمرار النقص المائي سيؤدي إلى مضاعفة المخاطر»، وأوصت بـ«منع السكان من حفر الآبار، وترشيد استهلاك المياه، وبناء شبكة صرف صحي جديدة للمدينة، وضرورة تدعيم التربة في المناطق السكنية، تجنباً لحدوث انهيارات».

الحرب ضاعفت المشكلة
بعد أن انطلقت أعمال تنفيذ توصيات الدراسة، بدأت الحرب في البلاد، وأدى خروج مدينة رأس العين عن سيطرة الحكومة السورية في عام 2013 إلى توقف العمل، وترك الخطر قائماًَ. وسبّب استنزاف شبكة المياه، من خلال الحفر العشوائي للآبار، نتيجة غياب السلطات الحكومية، بالإضافة إلى سنوات الجفاف، ازدياد منسوب الخطر. وتفيد مصادر محلية بأنه منذ أيلول/ سبتمبر 2018 وحتى صيف عام 2019، شهدت المدينة وريفها أكثر من 30 تشققاً جديداً، أبرزها تشقق خلف المجمع الاستهلاكي، وآخر بالقرب من مجفف الذرة. وفي هذا السياق، يؤكد رئيس مجلس مدينة رأس العين الأسبق، مزاحم الرزة، أن «التشققات لم تؤخذ على محمل الجد، وجميع الدراسات التي أُعدَّت عن علاج الظاهرة بقيت دون تنفيذ»، منبهاً إلى أن «التشققات التي ظهرت أخيراً قد تؤدي إلى انهيارات كبيرة، خاصة في منطقة الحديقة العامة وسط المدينة».
وينبه الكثير من المهتمين بالظاهرة في المدينة إلى أن الحلول التي يُلجأ إليها، بالطمر العشوائي للحفر والانهدامات الحاصلة، دون دراسة سبب الانهدام وشكله، غير مجدية. ومن هنا، يرى سليم بك أن الحلّ يكمن «في دراسة كل تشقق على حدة، وردمه بالحجر والبحص مع وضع دعامات بيتونية أفقية أو عمودية، بحسب شكل كل تشقق وظرفه»، فيما يعتقد الرزة أن «الأهم بناء شبكة صرف صحي بشكل مدروس وصحيح، وبما يتناسب مع وضع التربة الحالي»، معتبراً أن «هذه الخطوة ستضع حدّاً لشبكة الصرف الصحي العشوائية للمدينة، وتهيّئ الظروف لتطبيق بقية الإجراءات للسيطرة على الخطر الذي قد ينجم عن الظاهرة».
من جهته، يكشف مصدر مطلع على حالة التشققات أن تركيا أسهمت في انتشارها بشكل أكبر، من خلال إبطاء العمل في مشروع «الري الأناضولي»، لتأمين مياه الري للأراضي على الحدود مع سوريا، لأسباب سياسية تتعلق بالحرب. ويبين المصدر أن تأخير تنفيذ المشروع دفع الفلاحين الأتراك إلى حفر آبار عشوائية، واستنزاف المياه الجوفية الموجودة في الأراضي السورية، ما سبّب مزيداً من الجفاف في التربة والصخور. ويوضح أن إنجاز مشروع «الري الأناضولي» سيؤدي إلى اكتفاء السكان الأتراك من المياه، وعودة النشاط إلى المياه الجوفية والينابيع، وبالتالي خلق وضع يتلاءم مع واقع التربة ويحميها من أي انهيارات.