كشف إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الإبقاء على بعض قوات بلاده في سوريا، عمّا هو أبعد من تموضع عسكري في بقعة جغرافية محدودة. إذ أظهر هشاشة قوة الردع الذاتية لإسرائيل بعيداً عن الدعم الأميركي، والدور الوظيفي للكيان في المنطقة، فضلاً عن لغط ما تروّجه تل أبيب من أنها قاتلت وحدها طوال تاريخها من دون حاجة إلى دول أخرى تقاتل معها. حَرِص ترامب على تبرير إبقاء بعض القوات بكونه استجابة لطلب إسرائيلي ــــ أردني، وهو بذلك أراد أن يوضح للجمهور الأميركي أنه كان يريد تنفيذ وعده بالكامل بالانسحاب من سوريا، لكن إلحاح هذين الحليفين الأساسيين في المعادلة الإقليمية ــــ الشرق أوسطية فرض عليه بعض التعديل.طلب الأردن ليس مفاجئاً، إذ إنه دائماً ما ظهر في محطات سابقة، لكن حماية النظام الأردني هي مطلب إسرائيلي أولاً، وتحديداً في هذه المرحلة التي تمرّ بها المنطقة. ويعود ذلك إلى أهمية الدور الذي تؤديه المملكة في حماية الحدود الشرقية للكيان. وفي هذا الإطار، تخشى إسرائيل من أن تؤدي زعزعة استقرار النظام الأردني إلى اهتزاز أمنها القومي، وتهديد جبهتها الشرقية، وهو السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة إليها. إذ يمكن، يوماً ما، من وجهة نظرها، أن يستحيل الأردن معبراً لدعم المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وإمدادها بالسلاح، وخاصة أنه في ضوء التركيبة الجغرافية والديموغرافية على ضفتَي نهر الأردن الشرقية والغربية تبدو كل عناصر انطلاق مقاومة مسلحة تغيّر معادلة الصراع على أرض فلسطين بشكل جذري متوفرة. ولذا، تحاول تل أبيب بكلّ الوسائل التي تملكها، وعبر الولايات المتحدة، توفير الحماية والدعم للنظام الأردني من أجل المحافظة على استقراره وتعزيز قبضته الأمنية، ومن ذلك الإبقاء على قوات أميركية على حدوده.
أصوات كثيرة ارتفعت في إسرائيل بالتحذير من المرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة


لا أحد يتجاهل القدرات العسكرية والتدميرية الكبيرة لإسرائيل، ولا كونها كياناً رئيسياً في المعادلة الإقليمية، لكن الهلع الذي أصاب قادتها من قرار الانسحاب من سوريا، ومسارعتهم إلى الطلب من الإدارة الأميركية الإبقاء على قوات في قاعدة التنف، كشفا مدى ارتباط هذا الكيان بدعم الولايات المتحدة، وأن الأخيرة هي جزء من قوة ردعه، التي يبالغ القادة الإسرائيليون في تأكيد ذاتيّتها وحجمها ومفاعيلها. كذلك، أظهر قرار ترامب الأخير أن الهدف المباشر لوجود القوات الأميركية في سوريا هو بالدرجة الأولى حماية الأمن القومي الإسرائيلي في مواجهة الدولة السورية وحلفائها في محور المقاومة. ومع أن الانسحاب من الشمال لا يعني تخلّي واشنطن عن تل أبيب، أو إيقاف دعمها المادي والعسكري والاقتصادي والسياسي للكيان، إلا أن أصواتاً كثيرة ارتفعت في إسرائيل بالتحذير من المرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة. إذ إن تل أبيب تخشى ألّا يبلغ الدعم المذكور المستوى الذي تأمله، وخصوصاً في ضوء توجّهات إدارة ترامب وأولوياتها. لكن رئيس «معهد القدس للاستراتيجيا والأمن»، إفرايم عنبار، يرى أنه على الرغم من أن «الانسحاب الأميركي يؤثر سلباً على المصالح الإسرائيلية، إلا أنه قد يحوّل إسرائيل إلى حليف أكثر أهمية للولايات المتحدة من أي وقت مضى، كما أنه يمنحها حرية عمل ونشاط أكبر لتحقيق أهدافها ولاستخدام القوة»، مشدداً على ضرورة أن «تتأقلم إسرائيل مع الوضع الجديد وأن تجد الأجوبة الملائمة»، وداعياً إياها إلى أن «تكون جاهزة للعمل بشكل مستقلّ، وحتى من دون أيّ حليف».
ويتمثل البعد الأهم في قرار الانسحاب في أنه شكّل محطة اختبار وتحدٍّ للشعار الذي يكثر المسؤولون والخبراء والمعلّقون في إسرائيل من تكراره في هذه الأيام، وهو أنها دائماً ما كانت تعتمد على نفسها في الحروب ومواجهة التهديدات. وهم يهدفون بذلك إلى احتواء المفاعيل النفسية والردعية التي سوف تترتّب على هذا المستجد، والإيحاء بأنه لا جديد في المعادلات التي تحكم مواجهة التهديدات. لكن إسرائيل، عندما تقول إنها قاتلت طوال تاريخها وحدها، فهي تتعمّد التضليل. صحيح أنه لم تشارك جيوش غربية بشكل مباشر في أغلب الحروب التي خاضها الكيان (باستثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956)، إلا أن الأخير كان يعتمد بشكل رئيسي على النفوذ الأميركي وقبله البريطاني لحماية وجوده. واليوم، لا يخرج فرض عقوبات اقتصادية أميركية غير مسبوقة على إيران، ومحاولات إسقاط نظامها، وأيضاً العقوبات الأميركية على حزب الله عن هذا السياق.
يمكن عرض عدد كبير من الأمثلة في الماضي والحاضر، والتي تؤكد حقيقة أن إسرائيل لم تواجه التهديدات المحدقة بها وحدها في أيّ مرحلة من مراحل تاريخها. وتكفي للتدليل على صحة ذلك حالة الهلع التي أصابت الخبراء والمعلقين والمسؤولين في تل أبيب من قرار الانسحاب الأميركي، ومطالبة المؤسسة الأمنية بموازنة غير مسبوقة منذ عشرات السنين، مع تراجع الولايات المتحدة إزاء الضربات التي وجّهتها إيران لها ولحلفائها، وامتناعها عن اتخاذ قرار بالمواجهة المباشرة معها.